لا تنتظر شكرامن أحد
بقلم - عائض القرني






خلق الله العباد ليذكروه، ورزق الله الخليقة ليشكروه، فعبد الكثير غيره، وشكر الغالب سواه، لأن طبيعة الجحود والنكران والجفاء وكفران النعم غالبة على النفوس، فلا تصدم إذا وجدت هؤلاء قد كفروا جميلك، وأحرقوا إحسانك، ونسوا معروفك، بل ربما ناصبوك العداء، ورموك بمنجنيق الحقد الدفين، لا لشيء إلا لأنك أحسنت إليهم ﴿وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله﴾ وطالع سجل العالم المشهود، فإذا في فصوله قصة أب ربى ابنه وغذاه وكساه وأطعمه وسقاه، وأدبه، وعلمه، سهر لينام، وجاع ليشبع، وتعب ليرتاح، فلما طر شارب هذا الابن وقوي ساعده، أصبح لوالده كالكلب العقور، استخفافا، ازدراء، مقتا، عقوقا صارخا، عذابا وبيلا.


ألا فليهدأ الذين احترقت أوراق جميلهم عند منكوسي الفطر، ومحطمي الإرادات، وليهنؤوا بعوض المثوبة عند من لا تنفد خزائنه.
إن هذا الخطاب الحار لا يدعوك لترك الجميل، وعدم الإحسان للغير، وإنما يوطنك على انتظار الجحود، والتنكر لهذا الجميل والإحسان، فلا تبتئس بما كانوا يصنعون.
اعمل الخير لوجه الله؛ لأنك الفائز على كل حال، ثم لا يضرك غمط من غمطك، ولا جحود من جحدك، واحمد الله لأنك المحسن،

واليد العليا خير من اليد السفلى﴿إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا﴾.


وقد ذهل كثير من العقلاء من جبلة الجحود عند الغوغاء، وكأنهم ما سمعوا الوحي الجليل وهو ينعى على الصنف عتوه وتمرده﴿مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون﴾

لا تفاجأ إذا أهديت بليدا قلما فكتب به هجاءك، أو منحت جافيا عصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، فشج بها رأسك، هذا هو الأصل عند هذه البشرية المحنطة في كفن الجحود مع باريها جل في علاه، فكيف بها معي ومعك؟!

_____________

كان هناك رجل جالس على الشاطئ يرقب الموج الهادر، ويستمتع بأشعة الشمس الحارقة، وإذ به يلمح طفلاً يصارع الموج في يأس، وبسرعة ألقى بنفسه في أحضان اليم قاصدًا ذلك الطفل المسكين، أخذ في الاقتراب منه، ولسانه يلهج بالدعاء ألا تسبقه موجة عاتية تحصد هذا الجسد الهزيل.
وعندما وصل إلى الطفل، جاءه من الخلف، وأمسك بتلابيبه، وجره معه إلى الشاطئ، وارتمى على الرمال في تعب، وصدره يعلو ويهبط في سرعة، وقد أحس بوخز في صدره جراء هذا السباق المفاجئ.
جرى الطفل بعيدًا غير مصدق نجاته، وبقى الرجل ساكنًا على الرمال، يحاول جمع شتات نفسه.
وما هي إلا لحظات إلا و لمح الرجل بطرف عينيه الطفل الذي أنقذه قادمًا، ومعه سيدة، لا شكَّ أنها أمه قد أتت لتشكره، وبالفعل توقفت السيدة، وسألته: أأنت الذي أنقذت طفلي من الغرق؟
فقال لها في تواضع: نعم سيدتي.
فقالت له: إذن أين الساعة التي كانت في معصمه؟؟؟؟!!!!!
لا داعي لوصف حالة الذهول والإحباط التي انتابت الرجل، ولا داعي كذلك بالتنبؤ بأنه لن يسدي معروفًا لأحد بعد اليوم.

و
يروى أن عيسى قد شفى ذات يوم عشرة من المشلولين، فلم يشكره منهم سوى واحد، وأما التسعة الآخرون، فلقد انصرفوا عنه دون كلمة شكر واحدة!.



.. لهذا أعود وأكرر، لا تنتظر الشكر على خير فعلته؛ فتصاب بخيبة أمل وإحباط.
الأفضل - قارئي الحبيب - أن تطلب بعملك وجه الله، فإذا شكرك الناس؛ فقد رفعوا عن أنفسهم إثم كتمانه، وأعفوا أنفسهم من عار كُفر النعمة، وإذا جحدوك، ولم يروا جميل صنعك؛ فعند الله ما هو خير وأبقى، ولقد عرف لك الله حسن فعالك، فما يضيرك إن جحدك الناس.