من ذكريات شكّلت طفولتي
من الصور التي حملتها الطفولة وامتدت الى مرحلة الصبا قراءة ( المولد ) . ولانني فتحت هذه الكوّة من الذكريات , ارى امامي الان مجموعة من صور الاشخاص الذين غيّبهم الموت , والذين كانوا علامات مميزة لا بد من الالتفات اليها عند رسم صورة القرية في حقبة من الزمن .
"الضرير " واسمه الحقيقي محمد . كثير من الناس لم يكونوا يعرفون اسمه الأول , أو هكذا أظن . كان يحفظ القرآن كاملا ويعرف أزقة البلدة بوضوح لا يتأتى للمبصرين . عرف مواقع الزيتون (الرومي ) في القرية , إذ كان البعض يطلق الاسماء على بعض الاشجار الضخمه .
قيل ان بعض الاشخاص واغلبهم من الصبية كانوا يأخذونه معهم لسرقة الزيتون ليلا , دوره كان ان يتنبه لأي قادم فيقوم بالتحذير .
روى بعضهم انه حدث ايام الانتداب البريطاني أن طلبت دورية من الخيالة الانجليز من مختار القرية ان يرسل معهم من يدلهم على طريق ام الفحم المجاورة .اذ كان الوقت ليلا والظلام دامس , فقال المختار : قوم معهم يا محمد . ولدهشتهم اكتشفوا ان قائد المجموعة ضرير عندما رأوا وجهه على ضوء قنديل منزل مختار ام الفحم عقب وصولهم .
كان الضرير الحاضر دوما عند قراءة المولد . وقراءة المولد عند البعض كانت تعني عشاءً دسماً . كان يحفظ كتاب " المولد " عن ظهر قلب ؛ يجلس الى جانب ابي جميل ؛ هذا الذي كان والده يوما امام المسجد الوحيد في القرية عند انشائه والمدرس في الكتّاب ويبدو انه قد ورث عنه نسخة كتاب المولد ذاك وقراءته وكتاباً آخر فيه مجموعة من خُطب الجمعه تلقى كل خطبة في اسبوع محدد من السنة اذ كان المنتبع جيدا لما يلقى من الخطب يعرف موضوع الخطبة القادمة سلفا , وهذا كان من اجل ان تتضمن الخطبة بعض المناسبات كالمولد النبوي وراس السنة الهجرية والتبشير بقدوم شهر رمضان ومناسبات اخرى كالاسراء والمعراج وذكرى معركة بدر.
كنت احد الحضور الدائمين لسهرة قراءة المولد اذا كانت عند احد من الاقارب . فقد كنت ارى فيها ما يشبه حفلة موسيقية وانا اسمعهم يرددون الاشعار
يا آمنه بشراك .........سبحان من أعطاكِ
بحملك بمحمد.......... رب السما هناك.
وبعد الشعر نصوص يقرؤها ابو جميل ببعض الصعوبة ليعود للشعر مرة أخرى
صلوا عليه وسلموا تسليما
الله زاد محمدا تعظيما
الله يجزي من يصلي مرة
عشرة ويضحي في الجنان مقيما
ويصل الحدث ذروة التفاعل والمشاركة الوجدانية الخالصة عندما يصل القارئ المنشد الى حدث الولادة حيث يقف الجميع وتزغرد بعض النسوة من الجالسات في الخارج قرب الباب وتصل المتعة الانشادية حدا تجعل البعض يهز رأسه يمنة ويسرة كالمتصوفين في حلقات الذكر
صلى الله عليك سلام عليك احمد يا محمد......
صلى الله عليك سلام عليك احمد يا ممجد
صلى الله عليك سلام عليك طه يا حبيبي
كنت اراقب باهتمام وجوه الحضور والذين كانوا يذوبون انسجاما في حضرة الانشاد الذي لم يكونوا يهتمون بمعانيه اكثر من الالتزام بقافيته
اكثر من كان يغرق في المتعة الى قرارها ابن خالي وابن عمتي معاً " مصطفى احمد " والد الصديق على صفحة الفيس ..ابراهيم ياسين .. وآخر اسمه عبدالله الرزق ..هكذا كانوا يندونه بينما اسمه الحقيقي عبدالله احمد ياسين . فكان يُنسب لشقيقه الاكبر وهذه عادة ما زالت متبعة احيانا في قريتنا الى اليوم .
من صور المولد التي لا تبرح ذاكرتي, الشعير الذي كانوا يضعونه في وسط حلقة الذكر . حيث كان يقوم شخص ما بتحريك الشعير الذي كان يستخدم " للرقية ".
كثير من الصور ما زالت تلح محاولة الخروج من سجن الذكريات لكن عذري اني اعرف ان بعض القراء على الصفحة يتسرب اليهم الملل سريعاً قلا يتمون ما يبدأون بقراءته.
لا ادري .....ربما اجلو عن صورة أخرى يوما ما بعد ازاحة ما علق بها من غبار النسيان
"إعادة"