ما إن تهل الأيام الأخيرة من كل عام حتى يظهر عرافون ومنجمون على عدد من الفضائيات العربية وبعض الصحف والمواقع الإلكترونية يبشرون البعض ويحذرون البعض الآخر.

يبنون قصوراً من الوهم وخاصة لأولئك الذين يؤمنون إيماناً لا يتزعزع بثقافة التنجيم التي دأبت فضائيات عربية على تعميمها خلال السنوات الأخيرة، حيث ظهرت قنوات تخصص بثها كله لهؤلاء الذين يدّعون علماً بالغيب وقد وصلت بركاتهم إلى درجة مضحكة حتى باتوا يدلون بدلوهم بقضايا دولية في مشارق الأرض ومغاربها فهذا يتوقع أن تتقاعد الأزمة الفلانية وذاك يعتقد أن العالم مقبل على كوارث ومجاعات وحروب.
أطرف ما قرأت من تنجيمات البعض أن الأزمة الكورية لن تتصاعد لتصل درجة الحرب وكأن من يلحق آثار هؤلاء العرافين يهمه كثيراً هذه الأزمة وتداعياتها.
منذ عشرين عاماً قدمت السينما المصرية فيلماً من أجمل وأعمق أفلامها في تلك الفترة وهو فيلم (البيضة والحجر) الذي لعب بطولته النجم الراحل أحمد زكي وما زال هذا الفيلم يعرض على قنوات السينما العربية فهو يتناول موضوعاً راهناً تفاعل خلال العقدين الأخيرين وأخذ أبعاداً أعقد حيث تطرق الفيلم لقصة أستاذ أجبرته الظروف والناس المحيطون به إلى ترك مهنة نبيلة كالتدريس إلى مهنة أخرى تدر عليه الملايين والشهرة فأصبح يلعب بالبيضة والحجر ويدغدغ أحلام الناس وأوهامهم ويعمل على تخديرهم وهم راضون.
والمقلق أن بعض العرافين يحاول أن يُلبِس الدين عباءة لدجله حتى يستدعي عامة الناس إليه فيستولي على ما في جيوبهم مقابل الوهم في حين أن البعض الآخر يُلبس توقعاته لبوساً عصرياً خالصاً حتى يوحي للآخرين أنه يستند إلى العلم وإلى قراءة طوالع النجوم والأبراج لكي يبعد صفة الدجل عن نفسه.
رغم أنه لا بيانات واضحة وصادقة عن الفئات التي تلجأ إلى هؤلاء الناس إلا أنه بات من المعروف أن كثيراً من الناس يحرصون على قراءة ما يقول هؤلاء عن الأبراج في الصحف والفضائيات لا بل إن البعض منهم يبني حياته على توقعات هؤلاء وخاصة إذا تعلق الأمر بالسيئ من الأمور فتراه يتلبّس ما قاله فلان أو فلانة وكأنه قدر لابد واقع فيقع أسيراً في يد هؤلاء حيث يسيّرون حياته كيفما يشاؤوا كأن يقولوا له إن برجك سيكون جيداً في الشهر السادس من العام فيقعد المسكين منتظراً لهذا الشهر حيث سيحصد الخير كله فيه ويمر به الشهر فإذا به أسوأ من سابقه.
حمى التنجيم والاعتماد على المنجمين لا تقتصر على الناس العاديين فقد ذكرت وسائل إعلام أمريكية أن عدداً من الرؤساء الأمريكيين كانوا يرسلون وراء أهم المنجمين في العالم وربما على رأسهم الرئيس رونالد ريغان.
لا ننسى أن نشير إلى أن الدراما السورية تطرقت لهذا الموضوع الحساس في مسلسل عرض منذ عامين هو (ليل ورجال) اقترب كثيراً من عالم الذين يتخذون من الدين أداة لتصيد المساكين وأصحاب الأفق الضيق الذين رغم إيمانهم الدفين بأن الله سبحانه وتعالى هو وحده علام الغيوب إلا أنهم يقعون بسهولة بالشرك وبعض هؤلاء الدجالين لا يتورع عن هتك الأعراض مستغلاً جهل بعض الناس وحاجتهم إلى من يخفف عنهم.
تجارة التنجيم والدجل والشعوذة تجارة رائجة وأجزم أن هناك ملايين الدولارات تتداول في سوق هذه التجارة، وإن كنت لا أعرف شيئاً عما يجري في العالم على هذا الصعيد (لأني لست عرافاً) إلا أني أعرف أن العالم العربي مكان جيد يستطيع فيه بائعو الوهم التخلص من بضاعتهم بأبهظ الأثمان يساعدهم في ذلك تواطؤ خفي من فضائيات عربية حيث لم أكن أتمنى على الإطلاق أن تفرد قنوات سورية رسمية وخاصة مساحات بث لهؤلاء في برامج رأس السنة الميلادية. لم يكن لائقاً أن نرى على الفضائية السورية من يقرأ توقعاته البرجية وكأنها يقين.
تذكر كتب التاريخ أن هناك من تنبأ بشيء جلل وحدث ما تنبأ به ولكنها تنبؤات مبنية على معطيات علمية فمن تنبأ بأن الإنسان سيغزو القمر كان يعرف أن تطور العلم الإنساني سوف يفضي إلى هذه النتيجة وكذلك من قال منذ قرون بأن الإنسان سيطير كما يطير الطير في السماء فأحلام اليوم حقائق الغد بالعلم وليس بالدجل والشعوذة.
الغريب أن الأمة التي تنفي ثقافتها الخرافة وتقصيها هي الأمة الأكثر وقوعاً في شركها والبركة بالإعلام العربي أو بعضه ممن ترك كل شيء وبدأ يلعب بالبيضة والحجر وحتى هذه اللعبة لا نحسنها فبيضنا فاسد وحجرنا لا يصيب.