الشعوذة والدجل موجودان في كل المجتمعات المتقدمة والنامية والمتخلفة، غير أن ما يحدد تأثيرها وانتشارها هو القابلية لاستقبالها، والتي بدورها تمثل الهشاشة المعنوية لدى المستقبل لقصور في الوعي ونقص في العلم والمعرفة. وهي عوامل يراهن عليها ويستغلها تجار الوهم الذين يبيعون الوعد بالشفاء السحري والثروة الطائلة ومعرفة الغيب وتحقيق الأمنيات والأحلام.

الفضائيات التي ملأت سماء البث صارت نوافذ لهؤلاء الدجالين ومنابر لهم يعلنون على الناس عقاقيرهم وأمصالهم وأعشابهم ورقاهم أو يسحبونهم من آذانهم وعيونهم لكي يقرأوا لهم طوالعهم ويوهموهم بضربات حظ مذهل أو يرسموا لهم معالم طريق من تخريفاتهم للحصول على هذه الأمنية أو ذلك الحلم.

لقد استغل هؤلاء تاريخ العطارة والموروث الشعبي للطب وألبسوه حلة حديثة بمنطق الصناعة الحديثة يقدمون سلعهم كما يقدمها عالم الصيدلة ومختبرات الأدوية ومعاملها، فيعطونها مسميات براقة وعبوات جذابة لا توحي إلا بأنها مرت على أعلى الهيئات الطبية وأفضل مصانع إنتاج العقار.

الأمر نفسه يحدث في إيقاع الناس في شراك دجل الأبراج والتنبؤات، فهذا خبير به منذ عقود يصدر كتابه ويتقاطر عليه الناس وعليتهم ليقرأ لهم طوالعهم وإذا أجزلوا له العطاء تجرأ على تقديم وصفة سحرية يحدد بها خطواته وسكناته لكي يحصل على مبتغاه من ثروة أو منصب أو حبيبة... إلخ، وتجده أو تجدها تضرب الأمثال على شخصيات شهيرة خرجت من عجائب برجها ـ مثلا ـ باتباع النصائح وفازت بالغنائم والسعادة وتجنبت مكروها كان يحيق بها.

هؤلاء كلهم دجالون، ولو كانوا يملكون ضراً أو نفعاً لفعلوه من أجل أنفسهم، غير أنهم لم يجدوا من وسيلة للحصول على المال سوى هذا الطريق الرجيم.. وهم بالتأكيد مكشوفون من كثيرين، لكن المؤسف والمؤلم أن كثيرين أيضا يقعون ضحايا لهم، بل إن بعض أولئك الذين لا يصدقون تستخفهم حالة الفضول أحيانا فيندفعون إلى الاتصال بهم وإلى دفع ثمن ذلك ولسان حالهم (دعنا نجرب .. أو .. إن نفعت وإلا ما ضرت)، والأكيد الأكيد أنها لن تنفع وإنما قد لا يتوقف الضرر على فقد المال وإنما ربما عرض الإنسان نفسه لضرر صحي أو حرج شخصي مخجل.

لسوف يظل تجار الوهم يملأون الشاشات وسوف تظل تفسح لهم المكان، بل تعمل على استقطابهم ليظلوا من بين أعمدة برامجها المستمرة، وما من سبيل عليهم ولا على الفضائيات، وهي معضلة تقنية تجارية عالمية، لأن لا سلطة لأحد على فضائية خاصة، وهي أن يتم عدم السماح لها بالبث من هذه البلاد فلسوف تجد بلدانا عديدة تبث منها، وسيظل الوهم تجارتها التي تعض عليها النواجذ، ومن هنا فالتوعية أحد الأسلحة المتاحة أمام كل المجتمعات، وكلما كانت طرق التوعية ووسائلها متعددة، وكذلك مواقعها كانت أجدى وأكثر قدرة على الحد من مخاطر تجارة الوهم هذه، ومع ذلك، فإن مثل هذا الاتجار بالوهم، وإشاعة الشعوذة والدجل، إلى جانب لعنة العري والمشاهد الجنسية وشحنات الفزع من العنف في الفضائيات كلها وغيرها من السلبيات جعلت البعض ينادي بوجود برلمان أخلاقي دولي للبث يحمي الإنسان حيثما كان من أن يتحول إلى مقلب نفايات لكل ما يشوّه ذهنيته أو يلوثها أو يعرضها للانحراف عن الحياة السوية وهو مطلب يظل أقرب للأحلام والأمنيات المثالية، لكنه يعبر في الوقت ذاته عن عمق المأزق النفسي والأخلاقي الذي يجد العالم نفسه فيه اليوم!.




--------------------------------------------------------------------------------