مارك تومبسون ـــ المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي:
إمبراطورية مردوخ الإعلامية شريك في صناعة التلفزيون العالمي





في محاضرة غير تقليدية ألقيت في المهرجان التلفزيوني العالمي في مدينة أدنبرة في سكوتلندا في 27 من آب (أغسطس) 2010، تحدث مارك تومبسون ـــ المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عن مستقبل صناعة التلفزة البريطانية، مركزا على دور "بي بي سي" محليا وعلى المستوى الدولي، ومسلطا الضوء على مقومات صناعة التلفزة وعلى تحديات العصر الرقمي التي تواجه هذه الصناعة.

وفي محاضرته القيمة، انتقد مارك تومبسون بشكل لاذع الإمبراطورية الإعلامية للملياردير الأسترالي روبرت مردوخ، محذرا في الوقت ذاته من أن محطة سكاي هي أقوى بكثير مما يراه البعض وأن "سكاي" ستتفوق على "بي بي سي" وعلى كل المحطات الأخرى مجتمعة. وتناول في محاضرته الزحف الذي تقوم به "نيوز كروبوريشن" ـــ وهي شركة خدمات ترفيهية متنوعة تعمل في ثمانية قطاعات، منها الأفلام والإعلام والنشر والكابلات ـــ وأنشئت على يد روبرت مردوخ كشركة قابضة في الولايات المتحدة، مسلطا الضوء على حقيقة أنها الآن تمتلك 39 في المائة من محطة سكاي البريطانية وهي في قيد شراء بقية الأسهم، وفي حال نجاح "نيوز كروبوريشن" في شراء بقية أسهم محطة سكاي، لن تكون محطة سكاي أكبر محطة بثت بريطانية فحسب، بل إن ذلك سيعبر عن ملكية إعلامية مركزة قد لا يسمح بذلك في الولايات المتحدة أو أستراليا.

وتناول في محاضرته ما سماه النموذج التمويلي الفريد الذي يسمح للتلفزيون بالعمل في المملكة المتحدة، فهنا أسباب أوردها مسؤولة عن عمل التلفزيون الجيد لأن النظام نفسه في غاية من الإتقان وهو مميز في أربعة مجالات تشكل دعائم قوية. فأولا، هناك النموذج التمويلي المختلط الذي "سمح لنا أن نستثمر في الإنتاج الأصيل أكثر بكثير من أي دولة أخرى قياسا بمعدل حصة الفرد". وقد بلغ الاستثمار في هذا المجال مركزا أكبر بثلاث مرات من دول كبرى أوروبية في جنوب القارة مثل إيطاليا وإسبانيا، وأكثر بمرتين من دول الشمال مثل فرنسا وألمانيا. ولا يوجد إلا الولايات المتحدة ـــ التي تتمتع بصناعة إعلام محلية ضخمة ولها قدرة على الحصول على عائد خارجي أكثر من المملكة المتحدة ـــ التي يمكن لها الإنفاق أكثر قياسا بمعدل حصة الفرد.

أما المجال الثاني، فهو متعلق بثقافة البث التي تختلف عن دول أخرى كثيرة. فمشاهدو التلفزة البريطانية ليسوا فقط أذكياء لكنهم أيضا عطشى لأفكار جديدة، وهذا الوضع على العكس من وجهة النظر الجافة الموجودة في مناطق أخرى من العالم. وفي أحسن الأحوال، ترغب هيئة الإذاعة البريطانية في أن تشترك بأفضل ما يمكن مع كل فرد، فهي تأخذ المواضيع التي تبدو عصية على البحث مثل النظام الشمسي أو ما يمكن أن تتعلمه عن الحضارة من خلال لوحات فنية، وتقوم بعد ذلك بضخ الحياة فيها بشكل مقنع وخلاق يصل إلى عمق المجتمع.

أما المجال الثالث فهو متعلق بتقليد الاستقلالية التي تمتعت بها "بي بي سي". وهذه النقطة بالتحديد مكنت "بي بي سي" من الحفاظ على حياديتها في الأخبار وغير الأخبار، وهو ما يفاخر به المشاهد البريطاني وهو موضع حسد العالم كله. وفي اللحظة الراهنة وبالرغم من القلق الذي عبر عنه في العالم الماضي فإن الاستقلالية بقيت مصانة، فالائتلاف الحكومي الجديد عبر بوضوح عن دعمه لهذه الاستقلالية

وبشكل عام يمكن القول إنه على خلاف كل دول العالم تقريبا، باستثناء الولايات المتحدة، فإن المملكة المتحدة تصدر خدمات تلفزيونية مع أن النطاق ما زال محدودا، ففي عام 2008 كان صافي تصدير الخدمات التلفزيونية ما يقارب 198 مليون جنيه استرليني، كما أن الإدارة والاستشارات تحقق ستة أضعاف الرقم.

ويشير مارك تومبسون إلى أن تغييرات قادمة في "بي بي سي" ستضمن استمرار الخدمة في قادم السنوات، فهناك كثير من الوظائف ذهبت من "بي بي سي"، كما أن هناك حاجة لسن قانون تقاعد جديد وعادل، فنظام التقاعد الحالي لا يمكن احتماله ماليا في المستقبل ومن ثم لا بد من الدخول في مفاوضات مع العاملين للتوصل إلى صفقة يربح فيها الجميع. وهذه التغييرات ناتجة عن التغير في طبيعة الإنتاج التلفزيوني والرغبة في تقليل النفقات أو على الأقل ضبطها للاستفادة منها بأقصى درجة ممكنة.

وينتقل للتحدث في النهاية عن محطة سكاي التي يرى أنها أكبر محطة في بريطانيا اليوم عندما يتعلق الأمر بالعوائد، إذ تجني عوائد تقارب 5.9 مليار جنيه استرليني في السنة، وهو أكثر من عائد "بي بي سي". ويرى كثير من المحللين أن "سكاي" ستكون أكبر في النهاية وتجعل من "بي بي سي" قزما قياسا بها. فمحطة سكاي هي الآن أقوى من "بي بي سي" ومن "إي تي في"

وهي الآن القوة المهيمنة في صناعة الميديا والبث التلفزيوني. وإذا ما قامت "نيوز كوربوريشن" بالحصول على باقي أسهم محطة سكاي، فإن "سكاي" لن تكون فقط هي أكبر محطة بريطانية وإنما جزء من شركة هي أيضا مهيمنة في الصحافة الوطنية وفي أكبر دور النشر البريطانية.

وتمكنت "سكاي" من التفوق في بريطانيا لعدة أسباب أهمها الابتكارات التكنولوجية والرغبة في أخذ المخاطر والمرونة الاستراتيجية والقدرة على التقرب من فهم طلبات المستهلكين، وهذه هي الأسباب التي جعلت من "سكاي" قوية.

في المحصلة النهائية، يبدو واضحا أن التحديات التي تواجه صناعة التلفزة البريطانية هي أكثر من قبل بالرغم من الثقة التي يبديها مارك تومبسون في محاضرته، ولا يمكن القول إن التحذير من خطر متمثل في روبرت مردوخ سيعفي الصناعة الإعلامية البريطانية من ضرورة العمل بمزيد من الجدية حتى يمكن لها البقاء منافسة لغيرها، وهذا ما أراده تومبسون في محاضرته، فالقضية ليست قضية تنافس داخلي بين "سكاي" و"بي بي سي" وغيرهما وإنما ضرورة طرح نموذج جديد في العمل معا لتخطي صعاب المرحلة الرقمية المقبلة.