التذوق الفني هو عملية اتصال , وعملية الاتصال , تقتضي وجود طرفين احدهما هو المرسل والثاني هو المتلقي بينهما قناة للتوصيل , ورسالة محمولة على هذه القناة .
ومصادر الاتصال متنوعة , ووسائله عديده وأساليبه كثيرة ,ولسنا بصدد تناول عناصر واساليب وسائل الاتصال ,ولكننانحاول ان نقف عنده باعتبار ان ما يقرره الدارسون المحدثون بخصوص انضواء عملية التذوق الفني تحت لوائه لما يستثير فينا اعادة التفكير حول ما كان سائداً من افكار او نظريات .
ان النظريات متعددة فمنها نظرية الدوافع المحركة لعملية التذوق , ومنها نظرية التحليل النفسي , باعتبار ان التذوق نوع من التسامي بالطاقة البشرية , نحو نشاط رفيع , وهو في نظر البعض , نشاط انسحابي , ولدى البعض , ان ما يتحكم في عملية التذوق وخصائصها , هو ما يطلقون عليه اسم القطاع الذهبي في الشئ باعتبار ان اي شئ له حجم معين ومساحة معينة وحين تكون اجزاء هذا الشئ مرتبة وفقا لنسب معينة مثلا كوجه الانسان , حينئذ يرى البعض القطاع الذهبي يتحقق فيه , حين تكون المسافة من اسفل الذقن حتى اسفل الجبهة تساوي ضعف المسافة من أسفل الجبهة الى منبت شعر الرأس وقل نفس الامر في اعمال التشكيل كلها : لكل موضوع قطاع ذهبي .. اذا توفر , كان من الممكن ان ندرك في الشئ درجةاو اخرى من درجات الجمال .
واخيراً , بدأت تتقدم الى الساحة نظرية جديدة , هي نظرية المعلومات , وما ترتب عليها من القول بأن التذوق هو عملية اتصال , يتوقف الكثير من خصائصها على كمية ونوع وخصائص المعلومات التي يطرحها المثير او الموضوع الفني موضوع التذوق , وما يتم خلال العملية من استيعاب واثارة للافكار واعادة نظر , ثم المقارنة والتفضيل بين نفس العمل واعمال اخرى مركوزة في عقل الانسان .. الخ اي انها عملية يمكن ان تشبه بدرجة او بأخرى عمليات الضبط الذاتي السيبرنطيقيا .
والملاحظ ان كل نظرية تحاول ان تنظر الى الموضوع من زاوية خاصة تتلاءم مع منطقها العام , وبذلك يمكن القول ان كل نظرية قدمت وصفاً اوتفسيراً لعملية التذوق الفني انما قدمت جانباً واحدا من الصورة , حتى نظرية المعلومات المشار اليها , وما ترتب عليها من النظر الى التذوق الفني , على انه عملية اتصال .
والقول بان التذوق الفني عملية اتصال , لا يشير الا الى جانب واحد من العملية هو الجانب الشكلي او الاسلوبي او الظاهري من العملية , ويبقى ما يترتب على اسلوب الارسال والتلقي .
انالرسالة الفنية ( الموضوع الفني ) حين يقدمها صاحبها الى الاخرين , فهو يضع في اعتباره انتكون الرسالة قابلة للفهم , اي لا تكون شيئاً بلا معنى , وهو يضع في اعتباره ان تكون ذات قيمة بالنسبة لمن يتلقونها والا فما هو الدافع الذي يمكن ان يحرك شخصاً ما لكي يضيع وقته امام امر لا يعنيه .
لقد تم التوصل في عدد من الدراسات الى ان العمل الفني , رسالة موجهة من الأنا ( المبدع ) الى الاخر ( المتلقي ) بقصد التوصل الى ما يمكن ان نطلق : حالة ( النحن ) اي توحد الأنا والاخر في حالة نفسية واحدة , تجمع بينهما وتزيل ما بينهما من فوارق واختلاف في وجهات النظر والاراء والانفعالات .
اي ان المبدع يحاول ان ي**ب المتلقي الى صفه , ويقنعه بوجهة نظره , ومحاولة المبدع هنا , ليست من طراز دفاع المحامين في المحاكم وامام القضاء , وليست من قبيل البرهان المنطقي , او الرياضي , الذي يسوق مقدمات لكي يصل منها الى نتائج معينة لا يختلف بصددها اثنان .
ان الفنان هنا لا يقدم مقدمات متفقاً عليها , لكي يرتب عليها نتائج ينبغي الاتفاق عليها كذلك , لأن الفن لا يمكن ان يقبل منه المباشرة . انه اعادة خلق للواقع , وهو هنا لا يسلم بالواقع , انه ينظر اليه من زاوية جديدة , ويراه برؤيا جديدة , تلك الرؤيا المختلفة عن رؤى الاخرين , ومن ثم فكيف يمكن القول بان التذوق الفني عملية اتصال , على نحو ما نقبل القول بأن الاتصال التلفوني عملية اتصال .. صحيح نحن نسلم بأن الاتصال هو الشبكة التي يلتقي عليها المرسل والمتلقي ,ولكن العملية الفنية من اولها الى اخرها تطرح شيئاً جديداً , انها ليست فحسب مجرد توصيل , بل ان المتلقي حين يلقى عملا فنيا تثور لديه تساؤلات ,وقد يتنبه على واقع نفسي كان يلازمه ولم يكن يدركه من قبل , وقد يعيد بناء خبراته التي سبق له وكونها , بحيث يصبح عالمه بعد ذلك غير عالمه من قبل .
المتذوق هنا اقرب الى ان يكون مبدعاً , وهو مبدع ليس بالمجاز ولكنه مبدع على سبيل الحقيقة , وابداعه ابداع داخلي , وانجازه الابداعي اعمال فنية فريدة تتحقق لأول ولاخر مرة , لأنها غير قابلة للتكرار او للعرض على الاخرين , هي خاصة جداً وخصوصيتها تنبع من كونها تحققت في الداخل وعرضت على عين العقل , وتنسمت هواء الخيال وتعمقت في سراديب الوجدان , ثم اخذت طريقها لكي تنضاف الى رصيد الخيرة المتكون في البناء النفسي للانسان .
ونحن حين نقبل القول بأن التذوق الفني عملية اتصال , فانما نقبله على ان نضيف اليه : انه ايضاً عملية ابداع حقيقي وخلق فني , وهذا هو الجانب المهم في عملية التذوق , من حيث ان العمل الفني ليس رسالة خبرية قابلة للتصديق او التكذيب , انها اكبر من ذلك , لأنها تمهد للانسان الطرق وتعبد له الدروب التي يمكنه من خلالها تقبل الواقع كله او رفضه , على اساس من الخبرة النفسية التي عاناها والتي اصبح بعدها شيئاً جديداً غير ما كان من قبل .[/b]