المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قـصـة يـوسـف كـمـا ذكـرت بـالـقـران الـكـريـم



محمد صوافطة الطوباسي
05-08-2011, 12:26 PM
إن المتتبع لقصص الأنبياء في القرآن يجد أنه يتَّجه إلى بيان دعوة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - الذي يذكر خبره بالتوحيد ، ومنع الإشراك بالله ، والإصلاح ودفع الفساد ، وكيف لاقى قومه دعوته ، وما احتج به من أدلة ، وما ساق لهم من براهين ، وأنواع المعجزات المختلفة التي أمدَّ الله تعالى بها النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - الذي يقص خبره ، وما آل إليه أمر الأقوام الذين دعاهم إلى الهدى وإلى طريق مستقيم ، فأبوا واستكبروا ، هذا شأن القصص القرآني الذي يسوقه الله تعالى في كتابه ، ولكنَّا نجد ذلك يختلف في قصة نبي الله يوسف - عليه السلام ، حتى يتوهَّم القارئ لها أنَّ نبي الله يوسف ما كانت له دعوة يدعو إليها ، ولا قوم يخاطبهم حتى تهجَّم المنحرفون يقولون زورًا من القول.
ولكنَّ الدارس للسورة الكريمة يجد أنها طراز آخر من القصص ، وفيها كشف عن النفس في ناحية من نواحيها ، ودراسة لها في علاقاتها بالمجتمع الذي تعيش فيه ؛ إذ هو يوجهها ، وإنَّ الدارس لها يجد فيها بيانًا للأسرة في علاقاتها بعضها ببعض ، مع علاقة الآباء بالأبناء ، وعلاقة الأبناء بعضهم مع بعض ، وعلاقات أبناء العلات ، كيف يختصمون وكيف يجتمعون ، وما يؤدّي الحسد بين أبناء العلات ؛ بسبب ما تثور به النفوس المئوقة ، وكيف تتصور ما ليس واقعًا على أنه واقع ، ثم ما يؤدي إليه الاندفاع بدافع الحسد المقيت.
ولنبتدئ بإيجاز القول في القصة من أولها : كان يوسف وأخوه الشقيق من أمّ غير سائر الإخوة ، والأب الحاني يعقوب يرى كل أولاده في منزلة واحدة ، ولكنه بنظره العميق الشفيق يرى في الإخوة الكبار من النظرات إلى الصغيرين ما لا يطمئن به ، فيعمل على ألَّا يكون منهما ما يثير ، ويؤجّج النظرات الماقتة ، يرى يوسف رؤيا صادقة {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ، فيخشى الأب الحاني أن يؤرِّث ذلك عداوة إخوته فينهاه : {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}.
ولكن الحسد يوهم الكبار أنَّ أباهم يؤثر يوسف وأخاه بمحبته لما يكون من فضل عطف على الصغير من الإيثار : {قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} ، وهنا يصل الحسد الشيطاني إلى غايته : {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} ، ولكن الشر لا يكون موضع إجماع ، فلم يكن إجماع على قتله ، بل : {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ارتضى الإخوة ذلك الحلّ الذي ينزل من القتل إلى إلقائه في الجب وهو صغير لا يعلم مآله ، ولكنهم يحتالون ليأخذوه من
379

أبيه برضاه : {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} ، لكن الأب الكريم بإلهام الأبوة يتوجَّس خيفة على ولده ويخشى عليه السوء ، ولكنه يخفي في نفسه سوء الظن بهم ، أو لا يكون سوء ظن ، ويذكر أنه يحزن إذا غاب عنه مستوحشًا بغيبته ، فيقول : {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} أخذوه ونفذوا ما دبَّروا وألقوه في غيابة الجب ، ولكن نفس يوسف ألهمها الله بأنه سيكون الأعلى ، وسينبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ، عادوا إلى أبيهم يبكون ، قالوا : {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} وأحسوا في أنفسهم بالظنّة تعرو أباهم ، فقالوا : {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ، وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} ولكن الأب بفراسته وبإلهام الأبوة ما صدقهم ، بل قال لهم : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
236 - هذه قصة ساقها القرآن الكريم لا لمجرَّد الاتعاظ والعبر فقط ، بل فيها كشف عن النفوس يجد فيها الدارس النفسيّ مكانًا للفحص يهديه إليه كتاب الله تعالى.
"أ" فهي أولًا : تبيِّن أنَّ علاقة أبناء الأعيان وهم الأشقاء لا تماثلها علاقة أبناء العلات وهم الإخوة والأخوات من الأب من غير الأمن ، وتصور الغيرة الشديدة التي تكون بين الأبناء ولو كانوا كبارًا ما داموا في ميعة الصبا ، وأنَّ هذه الغيرة تدفع إلى الحسد ، والحسد يدفع إلى البغضاء ، ووراء البغضاء الجريمة.
"ب" وهي أيضًا تصور لنا أنَّ الأبوة الشفيقة توحي بالتظنن وبالاحتراس ، فقط تظننَّ نبي الله تعالى يعقوب - عليه السلام - في أن قصَّ يوسف على إخوته خبر الرؤيا قد يدفع إلى أن يكيدوا له كيدًا ، ولذا أوصاه بألَّا يخبرهم بها ، وتظنن عندما أرادوا أن يخرجوا به ، ولكنَّه لم يتمكَّن من منعه عنهم.
وإنه إذ لم يتمكَّن من منعه عنهم أبدى مخافته من أن يأكله الذئب ، وقد كانت منه هذه الكلمة ، وكأنَّها كانت توجيهًا لهم ليبدوا العذر الذي يعتذرون به ، فجاءوا واعتذروا بأن الذئب أكله ، فمن كلامه ابتدعوا قولهم ابتداعًا.
"ج" ولكنهم جاءوا أباهم عشاء يبكون ، فما سر هذا البكاء؟ ذلك أنهم إذا فعلوا فعلتهم كان فيهم بقية من شفقة ، فكان هذا البكاء ، كما ندم أحد ابني آدم عندما قتل أخاه.
"د" وإنَّ يعقوب - عليه السلام - لم يصدق كل التصديق قولهم ، بل لم يصدق مطلقًا ، واستعان بالصبر الجميل ، وهو الصبر من غير أنين ، وجدير أن يكون من النبيين.
380

ولا شك أنَّ في هذا كله توجيهات نفسية لمن يتدبّر ويعتبر ويستبصر ، وكان حقًّا على الذين يدرسون مجتمع الأسرة أن يجعلوا من هذا مثابة للدرس يدرسونه ويبنون عليه ، ويسترشدون به.
وإنَّ قصة أسرة يوسف لم تنته هذه النهاية ، بل إنَّ الإخوة من بعد سيلتقون ، وسيتعاتبون أو يتلاومون ، ولقد وصل يوسف - عليه السلام - في علوِّه إلى أن مكّن من عرش مصر ، فقد مكَّن الله تعالى له في الأرض يتبوأ منه حيث يشاء.
جاء إليه إخوته فعرفهم ، ونسي بما أنعم الله به عليه مساءتهم ، ولعله استأنس بلقائهم ولم يستوحش ، ولكنه طلب أخاه شقيقه ، وقال لهم : {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ، قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} ولكن شفقة الأخوة وشفقته بأبيه وقومه تغلب طلبه ، فيجعل بضاعتهم في رحالهم وهم لا يعلمون ، فكانت ثمَّة محبة الأخوة ، ومحبة الشقيق.
رجعوا إلى أبيهم ، وفي هذه الحال كانوا صادقين : {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، ولكن ذكراه الأليمة تتحرَّك فيقول : {هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
ثم اكتشفوا من بعد ما جهله عليهم يوسف الصديق فتحو متاعهم فوجدوا بضاعتهم ردت إليهم : {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} ، وفي هذه المرة كان يعقوب - عليه السلام - أحرص من المرة الأولى ، فأخذ موثقًا ليأتينه به إلَّا أن يحاط بهم ، فآتوه موثقهم.
وتحرَّكت الشفقة الأبوية عليهم جميعًا ، وخشي عليهم العين ، فقال - عليه السلام - لهم : {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
دخلوا مصر من حيث أمرهم أبوهم ، والتقوا بأخيهم ، وآوى يوسف إليه أخاه ، وفاضت نفسه إليه قائلًا له : {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وأراد أن يبقي أخاه ، فلمَّا هموا بالرحيل وضع المكيال المصري في رحل أخيه : {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ، قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ، قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ، قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ، قَالُوا جَزَاؤُهُ
381

مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ، فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} ثم وجده في وعاء أخيه ، وبحكمهم أخذ أخاه وأبقاه عنده ، وتحركم فيهم الحال التي كانوا فيها عندما رموا بيوسف في الجب ، قالوا : {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} وبذلك ثارت في نفوسهم الغيرة القديمة ، وإذا كانت في أوّل أمرها قد دفعتهم إلى القتل ، أو السير في سبيله ، فقد دفعتهم هذه المرة إلى الكذب ورمي البريء بالسرقة {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} فأحسوا بالتبعة عند لقاء أبيهم ، وأرادوا أن يتشفَّعوا بحال أبيهم الشيخ فقالوا : {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ}. يئسوا من أن يعودوا بأخيهم لأبيهم الشيخ ، وتعرَّضوا للظنون التي لها في ماضيهم ما يؤديها ، وهمّوا بالعودة ، ولكن كبيرهم كان إحساسه بالتبعة أشدّ من سائرهم ، فقال لهم : {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ، ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ، وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}. عادوا إلى أبيهم وقالوا ما لقَّنهم إياه أخوهم الكبير الذي تخلَّف عنهم استحياء من لقاء أبيه ، ولكن الأب الشيخ لم يطمئن إلى ما قالوا ، وقال لهم : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}.
وإن الأمر إذا تأزَّم كان من لطف الله بعباده أن يفتح نافذة من الأمل في وسط التأزم ، فكانت تلك النافذة ، وقال نبي الله الشيخ : {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ، وفي وسط هذه الحال استيقظ الماضي فتذكَّر ابنه المفقود يوسف الذي لا يعلم حاله ، أهو حيّ يرزق أم ميت قبر ، وقد برَّح به الحزن ، ويقول الله تعالت كلماته في وصف حاله : {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}. رأوا أنَّ أباهم لا يزال يذكر يوسف ، ولا يني عن ذلك حتى يتلف جسمه أو يموت ، وصارحوه بذلك ، فقال الشيخ الجريح القلب : {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
وفي وسط هذه الغمَّة عادت إليه بارقة الأمل كما عادت أولًا ، فقال بحنان الأب الشفيق : {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
382

استجابوا لطلب أبيهم وذهبوا يبحثون ، وإن مكان الأخ الأخير معروف عندهم ، وأما الأخ الذي غيبوه فهم لا يعلمون حاله ولا ماله.
ذهبوا إلى المكان الذي تركوا فيه الأخ الأخير ، فدخلوا على عزيز مصر "يوسف" و{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}.
هم جاءوا للبحث عن أخيهم ، ولكنَّهم جعلوا المدخل إليه أن يقولوا أنَّهم جاءوا ببضاعة مزجاة ، وهنا نجد يوسف الصديق يحِنُّ إلى جمع الشمل بعد إذ تفرَّق ، فيقول لهم عاتبًا معتذرًا عنهم إذ فعلوا ما فعلوا جاهلين ، يقول الأخ المحب لإخوته : {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} وهنا تلهمهم عاطفة الأخوة الحبيبة إلى أنه يوسف ، وإن تغيَّرت الأحوال ، واختفت سيم الطفولة وبدت سمة الرجولة : {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}.
وهنا تظهر الأخوة المحبة المتغاضية عن الإثم من الجاهلين ، فيقول الكريم ابن الكريم : {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
وقد علم حال أبيه وطبّ لعلاجه ، وقال : {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}.
كان الأب العطوف يحس ، وهم في الطريق إليه بأن ريح يوسف تهب نحوه : {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ، قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
ولا نقف طويلًا عند ارتداد البصر إلى نبيّ الله يعقوب - عليه السلام - بعد أن ابيضَّت عيناه من الحزن ، أهو بسبب الفرحة الشديدة أم هو خارق للعادة ، وما ذاك بغريب على الأنبياء ، ونحن نميل إلى الثاني ، فإنَّ يوسف - عليه السلام - كان متنأكدًا ، ولم يكن متظننًا له.
جاءت الأسرة إلى مصر حيث سلطان يوسف - عليه السلام ، والتقت على المحبة بعد أن فرقتها غيرة الجهل : {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ
383

نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف : 99 ، 100].
237 - لم نتتبع قصة الصديق نبي الله يوسف من وقت أن رموه في الجُبّ ، وأردنا أن نربط بين أجزاء الأسرة لنعرف مقدار ما يتبيِّن من القرآن من حال النفوس في ميعة الشباب وجهالته ، وما يكون منها بعد أن تسكن عواطف الغيرة ، وتتوافر بواعث الرحم.
ذهب إخوة يوسف إلى أبيهم عشاء يبكون ، ورجَّحنا أن يكون بكاء حقيقيًّا ، وليس كدموع التماسيح كما يقولون ، وقلنا : أنها انفعالة الرحم ، وإن لم يكن لها أثر عملي ؛ إذ كانوا يستطيعون أن يعودوا ويستنفذوه من الجبِّ الذي ألقوه فيه ، ويظهر أنهم كانوا بين عاطفتين متضاربتين : عاطفة الرحم الجامعة ، والغيرة الملحة الباعثة على البغضاء ، فذرَفت عيونهم بالعاطفة الأولى ، وأقعدتهم الثانية عن أن يزيلوا ما فعلوا ، وما ارتكبوا في حق أخيهم.
ونترك أولئك الإخوة في حيرتهم ، واضطراب عواطفهم ، ولنتجه إلى الأب المكلوم الذي فقد ولده ، فإنَّا نلاحظ فيه ثلاث عواطف ، كل واحدة تجري على لسانه :
أولها : ألم الفراق الذي أصاب نفسه ، لقد كان ولده الحبيب المقرّب الصغير ، والصغر ذاته يجلب المحبَّة ويجعله أكثر قربًا ، وآثر بالمحبة من غير أن يفقد أحد من أولاده محبته ، فالحب الأبوي يقبل الاشتراك ، ولكن في تفاوت بالسن ، وبالقرب وبالخلق ، وبالمخايل التي تدل على الانفراد بمزايا دون غيره.
والثانية : إنَّ الذين كرثوه بهذه الكارثة التي هدَّت كيانه ، وجعلت عيناه تبيضان من الحزن ، هم أولاده وأفلاذ كبده ، فلا يمكن أن يكونوا أعداءه ، ولا يمكن أن يبغضهم ، لأنَّ بغضهم يكون ضد الفطرة ، وتلك حال لا يصبر عليها إلَّا أولوا النفس القوية التي هي نفوس الأنبياء والصديقين ، وفي الموقف الذي وقفه الشيخ من إحساسه بالألم من أولاده ، مع إحساسه بعاطفته مجال للدرس والتحليل ، وجَّه القرآن الكريم إليه أنظار الدارسين والفاحصين.
الثالثة : إنَّ يعقوب - عليه السلام - كان في قلبه إحساس عميق بأنه سيلقى ابنه في المستقبل ، إن لم يكن في القريب العاجل ففي البعيد الآجل ، فهو إذ يتهم أبناءه ، ويقول لهم : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} يقول أيضًا صابرًا : {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ويقول وقد غاب عنه ابنه الثاني بعد أن تباعد الزمان ، وأن يكون قد غمّى على الموضوع النسيان : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف].
384

وإن ذلك الإحساس الكريم الذي يتغلغل في النفس المؤمنة موضع تحسن دراسته وتعرفه ، ولا شكَّ أن هذا ليس من خواصِّ الأنبياء ، بل طبيعة في النفوس المؤمنة الطاهرة الملهمة من غير وحي ، إنما هي الصفاء النفسي.
وإنَّ قصة إخوة يوسف مع أخيهم وأبيهم وموقف أبيهم ، وهو الحامل للأسى من غير أن يقف من أبنائه موقف تنبيه للواجب الذي يتّخذ عندما تصاب الأسرة ، فيكون على كبيرها أن يجمعها ولا يفرقها ، ولا يذهب به فرط محبته وأساه إلى تبديل المحبة بالعداوة.
238 - نعود إلى الأولاد الذين آذوا أخاهم ، ولجَّت بهم الغيرة ، لقد اعتراهم الندم ابتداءً ، وإن لم يظهر له أثر عملي.
ولكنَّهم علموا مقدار خطئهم عندما بلغوا أشدَّهم ، أدركوا مقدار ما فقدوا من أخٍ ، وإن لم يكن كإحساس أبيهم ، بل إحساسهم تشوبه بقايا الغيرة ، وقد تبينت عندما أحسوا بأنَّ أخاهم الثاني تسبَّب في تأخير بضاعتهم.
وإنَّ الغيرة كما نرى في كلامهم تثير النفس ، فلا تندفع إلى البغضاء فقط ، بل إلى الكذب ، ولكنَّهم على كل حال كانوا في كبرهم يغلب عليهم حنان الأخوة ، ولشدة ما كانت فرحتهم عندما علموا أنَّ عزيز مصر هو أخاهم ، وقد قالوا وهم في طريقهم {نَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا}.
إن قصة يوسف في أسرته هي قصة أسرة فرَّقت الغيرة بعض عناصرها ، فكانت حكمة الأب الحاني هي التي منعت المأساة من أن تسير إلى غاية من الضلال ، بل وقف بها في أقصر حدودها ، وهي تبيِّن كيف تعود المحبة بسيادة العقل ، وفعل السن ، وإثارة المودة.
وفي ذلك درس حكيم للأسر التي تصاب بمثل هذه ، وفيه أيضًا دروس نفسية عميقة لمن يطلبها.
385

المجتمع المصري في عصر يوسف :
239 - ألقي يوسف في الجبِّ ، وصارت حياته عرضة لكل مفترس ، وقد ذكرنا آخذين مما تلونا أنَّه لم تصبه رعدة الخوف ، وألقى في قلبه الاطمئنان ، وألهمه الله تعالى أنه ناجٍ ، وأنه سينبئ إخوته بأمرهم في وقت يكونون فيه في البأساء ، وهو في السراء ، ويكون هو العزيز بعناية الله تعالى وهم الأذلاء.
ولم يمكث في الجب طويلًا ، بل جاء جماعة ممن يسيرون في الصحراء ، وألقوا في الجب دلوهم ليستنبطوا ماء ، فرأوا غلامًا استبشروا به ، وكان في ذلك الزمن وما قبله وما بعده يفرض الرق على كل غريب ، حتى جاء الإسلام فألغى هذا وغيره ، وقد أخذوه بضاعة ، وباعوه بثمن بخسٍ دراهم معدودة ، ولم يكونوا راغبين في بقائه.
وقد توسَّم الذي اشتراه من مصر فيه الخير ، وقال لامرأته : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا ، وبذلك ربِّي في كلاءة ربه كما صنع مع موسى ؛ إذ ألقاه إخوته في الجبِّ حسدًا وإيذاء ، كما ألقت أمّ موسى ولدها وقد وضعته في التابوت حرصًا أو فرارًا به من الموت.
وبهذه المحبَّة التي أضفاها الله على من اشتراه مكَّن الله ليوسف في الأرض وألهمه الحكمة ، وعلَّمه تأويل الأحاديث والرؤى ، ولمَّا بلغ أشده آتاه الله تعالى حكمة وقدرة على الحكم على الأشياء والأشخاص ، وصبرًا وإدراكًا.
آل أمره إلى أن يكون في بيت حاكم مصر ، وأن يكون خازن أسراره ، ومتصلًا بامرأته ، على أن يكون خادمًا خاصًّا.
وهنا نجد القرآن في تلك القصة الواقعة يصور لنا نفس المرأة المترفة الفاكهة في العيش والنعيم.
رأت على القرب منها فتًى جميلًا ذا فتوة وقوة ، فراودته عن نفسه ، وغلَّقت الباب ونادت طبيعته البشرية ، قالت له : أقبل ، ولكنه في خلق النبوة يقول لها : {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} فالخُلق يمنعه والوفاء يصدُّه.
ولكنها أخذت في الإغراء ، وأرادت أن توقظ فيه الغريزة ، ولعلها أيقظتها ولكن غلبه نور الهداية على الغريزة الدافعة ؛ إذ رأى نور الحق ، وهو نور ربه.
وفي هذه الصورة الواقعة صورة الحياة المترفة كيف تفسد النفوس؟ وكيف يغري بالرذيلة وجود الخدم الأقوياء في خدمة ذوات الخدر ، وكيف تكون الإرادة الصابرة كابحة للغريزة الجامحة ، وحائلة بينها وبين الشر.
تلك حال جديرة بالدرس على ضوء القرآن.
وتجيء من بعد تلك المعركة بين الهوى الجامح والحكمة والإرادة القوية ، وهو يذهب إلى الباب فارًّا من الرذيلة ، وهي تذهب وراءه تجره إليها ، وتكون المفاجأة لها ، وسرعان ما تكشف عن خلق المرأة وهو مسارعتها إلى اتِّهام البريء إذا لم تحقق رغبتها ، بل شهوتها ، فتستعدي عليه زوجها ، وتثير فيه الحمية ، لقد وجدا سيدها لدى الباب الذي يتسابقان إليه ، هو ليفرَّ وهي لتشدّه إليها.
{قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} شكت ظلمًا وحكمت ظلمًا ، ولكنه حكم ليس فيه الموت ؛ لأنها ترجوه لها بعد ذلك.
386

ولكن يوسف يدفع التهمة الكاذبة بالقول الصادق : {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}.
صارت القضية موضع نظر ، وقد وجد الشاهد الحسيّ الذي يشهد له ، فقد قُدَّ قيمصه وقت الاستباق إلى الباب.
فاستشهدا بذلك الشاهد ، فقال الحكم الذي حكم : {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ؛ لأنه يقَدُّ وهو مقبل عليها ، وهي تدفع عن نفسها : {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، فرأوا القميص قُدَّ من دُبُر ، فهو كان يفر وهي تجذبه بشد قمصيه : {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}.
عرفت البراءة ، وأنَّ يوسف كان فريسة كيد النساء ، وتلك حال يوجّه القرآن الكريم إليها لدراستها.
وهنا نجد السيد يبدو متسامحًا ، ولعلَّه وجد معذرة لها في جمال يوسف وكماله ، فاكتفى بأن قال : {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}.
ونجد في هذا الموقف توجيهًا للدراسات النفسية في المرأة وفي الرجل العفيف ، وفيما ينبغي ملاحظته في داخل البيوت وأكنانها.
إذا خرج الخبر عن اثنين شاع ، ولو تواصوا بالأسرار ، فإنَّ الخبر قد شاع في المدينة وتناولته جماعات النساء ، وإنهن ليهمهنَّ أمر الحب والمحبين {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
شاعت الأقوال في المدينة وتناولته الجماعات ، وعلمت امرأة العزيز بما يقلن ، وما يدبّرن وينشرن من أقوال ، وهي تعلم قلوبهن وما يستهوين.
أعدت لهن متكأً ولعلها كانت وليمة ؛ إذ أعطت كل واحدة منهنَّ سكينًا وقالت : أخرج عليهن : {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} ، وأعلنت هواها. ورغبتها الشديدة وإصرارها ، وقد رأتهنّ يعذرنها ، وقالت : {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} وهنا نجد النفس المؤمنة تقاوم طغيان المرأة وتحكمها فيقول :
387

رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
تشايع القول وكثر ، وصارت امرأة العزيز قالة الجماعات ، فكان لا بُدَّ أن يستر الموقف ، وستره في الجماعات الظالمة أو الجماعات المتسترة تكون على المظلوم دائمًا ، ولا تكون على الظالم أبدًا ، وذلك أن يسجنوه تخفيفًا للشائعة ، أو توجيهًا لها لغير أهلها : {بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف].
240 - هذه قصة فيها تكشف النفوس عن خبايئاتها ، وهي توجيهات لتالي القرآن الكريم إلى حقائق النفوس ، رجالًا ونساءً ، أتقياء وفجَّارًا.
دخل يوسف في حياة جديدة ، بعيدة عن كل مظاهر الزينة وبهجتها ، وإذا كان الغلام ردف النعمة بعد أن ذاق البلاء ابتداءً ، فقد جاءه البلاء مرة أخرى ، ولكنه في هذه المرة ينزل إلى الضعفاء ويعاشرهم ، يتصل بنفوسهم ، وعلَّمه الله تعالى تأويل الرؤيا.
يدخل معه السجن فتيان : {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، وهنا تبدو خوارق العادات والدعوة إلى الله على يد نبي الله يوسف - عليه السلام - يقول : {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ، وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف : 36 - 42].
لا شك أنَّ علم يوسف من غير معلم ، وتأويله للأحلام من غير ملقن ، بل بالإلهام المجرَّد من خوراق العادات التي تجري على أيدي الأنبياء.
خرج السجين الناجي من السجن ، وصار ملازمًا للملك ، ولكن فرحة الخروج والاتصال أنسته زميله في السجن ، فزادات المدة ليزداد تعلُّمًا من أحوال الناس ، حتى وجد حاجة الملك إلى من يئول رؤياه ، فتذكَّر صاحبه عند الحاجة إليه ، وهذه كلها
388

أحوال نفسية ينبِّه القرآن إليها ، وكان تأويل الرؤيا ، والتنظيم الاقتصادي الذي استلهمه يوسف الصديق من الرؤيا ، ولنذكر الأمر كما جاء في القرآن : {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ، يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف : 45 - 49].
كان ذلك التأويل الصادق مصحوبًا ببيان الترتيب الاقتصادي سببًا في أنَّ الملك رغب في الاستعانة به ، قال : ائتوني به ، فامتنع السجين الأبيّ عن الذهاب حتى تثبت براءته : {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} فعرف الملك حالهنَّ ، فسألهنَّ : {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف : 51 - 55].
241 - هذه وقائع وقعت من وقت أن دخل يوسف السجن إلى أن خرج منه مستوليًا على خزائن يديرها بحكمته ، ويسيِّر نظامه بإرادته ، وتعلّمه من ربه ، وهو نبي يوحى إليه ، وكل واقعة من هذه فيها تنبيه إلى ناحية من نفس الإنسان ، وارتباطه بالمجتمع الذي يعيش فيه ، فدخوله السجن لكمال خلقه ، وكمال جسمه ، وما كان حوله ، وما يفعله الحكام ليدرءوا عن سمعتهم ما ينالها من سوء صادق ، ويكشف فيه عن نفس المرأة وسيطرة العاطفة عليها ، وكيف دفعتها عاطفتها في موقفها الأول من مراودته ، ثم ما كان من إصرارها بعد أن أخذت المعذرة المسوغة من النسوة ، ثم ما كان من عاطفة المحبَّة التي انتقلت من مراودة إلى اعتراض ، وإلى استغفار.
وفي الحقيقة أن الدارس الذي يريد معرفة أطوال النفوس ، وما يعروها سواء أكانت نفوس رجال أم نفوس نساء يد في القرآن معينا لا ينضب من الحقائق النفسية التي تكون محور دراسته.
ولكنا لا نريد أن يطبقوا ما يعلموا من علم النفس على القرآن ويحملوا ألفاظه مالا تحتمل ، ولكن أن يجعلوه مرشدا يحكم على عملهم ، لا أن يكون عملهم الحكم عليه ، والله سبحانه وتعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.