المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القنوات الدينية والنموذج المفقود



marj
01-09-2010, 11:33 AM
القنوات الدينية والنموذج المفقود

الإعلام الديني ليس برنامج يذاع على شاشة تليفزيونية أو عبر الأثير.

الإعلام الديني عندي أعم وأشمل من ذلك ولا يرتبط بعنوان، فكل البرامج التي تدعو إلى قيمة من شأنها إصلاح المجتمع أو تسليط الضوء على متاعب الناس ومساعدتهم على التغلب عليها، وإشعارهم بان هناك من هو قادر على أن يأخذ بأيديهم وان يقيهم من عثراتهم ويطبب جراحهم أو في مواجهة الفساد والظلم.

هي برامج تدخل في صلب الإعلام الديني، وكل عمل فني يتناول القضايا الحقيقة التي تواجه المجتمعات العربية من انتشار جرائم لم نعتد عليها..

هي في موقع القلب من الإعلام الديني الذي لا يجوز أن يكون ركنا في زاوية، لكنه روح جديدة يتم استلهامها في كافة الأشكال البرامجية، وقاعدة قيمية يمكن الانطلاق منها والاستناد عليها.

ولأننا نعيش عصر الصورة من خلال بث فضائي هائل، تسبح في سماواته أكثر من ستمائة قناة فضائية عربية تمثل مختلف ألوان الطيف الإعلامي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، على مدار الساعة لتشكل النسق الفكري لقطاع كبير من المشاهدين في ظل دراسات علمية أوضحت أن كثيرا من القيم التي يكتسبها الأطفال وحتى الشباب مصدرها الصورة المرئية.

كما تثبت أن الفترات التي يقضيها الناشئة أمام التليفزيون تفوق ما يقضونه مع أسرهم أو في المدرسة، ناهيك عن باقي شرائح المجتمع والتي تضم نسبة غير قليلة ممن لا يجيدون القراءة في بعض الأقطار العربية، وباتت مشاهدة التليفزيون مصدرهم الرئيس في الترفيه واكتساب المعارف.

كان من الطبيعي والحال كذلك أن تسارع القنوات الدينية لتنال نصيبها من ثورة الفضائيات، بداية بقناة «إقرأ» عام 1998 وليس انتهاء بأحدث قناة دينية تم إطلاقها ليصل عدد القنوات الدينية ما يقارب خمسين قناة وفق آخر التقديرات، استطاعت أن تستقطب قطاعا غير قليل من المشاهدين.

خاصة وأن الشعوب العربية متدينة بالفطرة والخطاب الديني له وقع كبير في نفوسها بحكم التنشئة، فضلا عن مشاكل اقتصادية واجتماعية تواجه العديد منها.

والحق أننا استبشرنا خيرا بهذه القنوات الدينية، لأن الدين مكون أساسي من مكونات الهوية، وباعتبارها منبرا تنويريا يساهم في نشر صحيح الدين وتوضيح الصورة الناصعة للإسلام، في مواجهة آلة إعلامية عالمية جبارة تسعى إلى النيل منه ورسم صورة نمطية تربط الإسلام بالإرهاب، إلا أنها شأنها شأن أية تجربة إعلامية جديدة، لها ما لها وعليها ما عليها، تحمل أوجها إيجابية ولا تخلو من الجوانب السلبية.

لذلك اعتقد أن مرور أكثر من عقدين على بث القنوات الدينية، كفيل بتقييم التجربة وتوضيح بعض الإشكاليات التي تواجهها، سواء في المضمون المقدم أو طريقة تقديمه، وكذلك الأخطاء التي وقعت فيها من منطلق «الدين النصيحة».

أولا: الملفت للنظر أن بعض مؤسسي تلك القنوات، هم في ذات الوقت أصحاب قنوات الأغاني والأفلام، مما يوحي بأن القضية في جزء منها يحكمها منطق التجارة قبل القناعات الفكرية، بل إنها قد تأتي في إطار المشروعات الاقتصادية التي تحقق عائدا ماديا ليس أكثر.

وهذه إحدى الإشكاليات التي واجهت القائمين عليها من التأرجح بين الرسالة والتجارة، للحد الذي جعل أحد الدعاة في سابقة هي الأولى يرفع أمام القضاء قضية متعلقة بالملكية الفكرية، رغم أن الكثيرين منهم يعيدون إنتاج خطاب موجود أصلا، دون أن يضيفوا إليه أية جديد.

ثانيا: بعض برامج هذه القنوات تحول إلى سجالات بين مقدميها في أمور فقهية يدعي كل طرف فيها أنه محتكر الحقيقة بشأنها، وأن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيره خطأ لا يحتمل الصواب، ومما استوقفني بهذا الخصوص رسالة وصلتني على بريدي الالكتروني من أحد الأشخاص تحوي مقاطع فيديو من قنوات مختلفة.

يحذر فيها كل داعية من «ضلال الداعية الآخر» ويصفه بأوصاف تصل إلى السب والقذف الذي يحاسب عليه القانون ويطال علماء أجلاء، لمجرد الاختلاف معه في الرأي، ومما يثير الدهشة والاستغراب أنك ربما تجده يختم الرسالة بنصيحة فحواها «انشرها ولك الأجر»، ولا أدري أي أجر هذا الذي يناله الفرد عن نشر السباب والشتائم بين الناس ومن الذي أوصل هذا الشاب إلى ذاك الاعتقاد!

ثالثا: غياب الرؤية الواضحة والهدف من الرسالة المقدمة عند بعض هذه القنوات، وعدم تحديد أولويات القضايا الجديرة بالتناول تبعا لواقع الحال، أدى إلى التركيز على القضايا الفرعية أو الجوانب الشكلية، في حين يتم تجاهل القضايا التي تمثل جوهر الدين وتطرح نوعيات من القضايا جهلها لا يضر والعلم بها لا ينفع.

وقضايا أخرى شديدة التخصص لا يصح أن تناقش إلا من قبل المتخصصين الأكفاء، بل أن بعض هذه القنوات اعتمدت الخطاب الطائفي أو المذهبي مما نتج عنه رد فعل مماثل، فأصبحت أداة من أدوات التفريق والتمزيق لا الجمع والتقريب.

رابعا: الغالبية العظمى من مقدمي برامج تلك القنوات ليسوا خريجي معاهد علمية متخصصة، ولكن تلك القنوات هي التي صنعت نجوميتهم بلا أساس علمي يخولهم الإفتاء أو الخطاب الديني السليم، ولأن التشدد له سوق رائجة أصبح بعض تلك القنوات مصدرا للفتاوى الدينية المتشددة والمتضاربة، إلى حد الفوضى التي كان ضحيتها المتابع لها من عدم التيقن من الحلال والحرام رغم أنه بين.

خامسا: في هذا الجو المرتبك والمضطرب، وفي ظل الرغبة في الربح، دخل الإعلان التجاري في هذه القنوات، ولا بأس من ذلك ليساعدها في عملية التمويل، لكن الخطورة أنه لعب على المشاعر الدينية مثل زالنغمات الإسلاميةس والجهاد في سبيل الله عبر إرسال رسائل نصية لأرقام محددة وغير ذلك كثير..

إن هذه الفوضى التي يشهدها بعض القنوات الدينية، ترجع في جانب كبير منها إلى غياب النموذج الأمثل الذي يدعو إلى الإسلام الوسطي ويساعد الناس على معرفة كيف يحيوا بالإسلام.. النموذج الذي يجمع ولا يفرق ويدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.. النموذج الذي يناقش القضايا التي تمثل واقع الناس ويساعدهم على استشراف مستقبلهم.

لذا فإن مواجهتها لا تأتي بالمنع، ولكن المواجهة الحقيقية تأتي من إنشاء قنوات تنشر الخطاب الديني المستنير، ويتصدر له أناس مؤهلون علميا وثقافيا، يدركون حاجات عصرهم ويعون التحديات التي تواجهه.

وهنا يأتي دور المؤسسات الرسمية لدعم مثل تلك القنوات، وخلال فترة وجيزة سوف يستطيع المشاهد أن يميز بين الغث والسمين، وكما قال تعالى ؟فأما ال**د فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.