double click
31-12-2009, 12:24 PM
الحمد لله الحمد لله العلي الأعلى الولي المولى الذي خلق فسوى و حكم على خلقه بالموت و الفناء و الباقي إلى دار الجزاء ثم الفصل و القضاء " (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)(طـه: من الآية15) " و لقد قال تعالى في محكم التنزيل " (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (طـه) . و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و إليه المنتهى ، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون.
من اعتصم بالله و رسوله فقد اعتصم بالعروة الوثقى و سعد في الآخرة و الأولى و من يعصي الله و رسوله فقد ضل ضلالا بعيدا و خسر خسرانا مبينا، أسأل الله أن يجعلني و إياكم ممن يطيعه و يطيع رسوله صلى الله عليه و سلم و يتبع رضوانه و يتجنب سخطه فإنما نحن به و له .
أوصيكم إخواني بتقوى الله و أحثكم على طاعته فإن تقوى الله أفضل ما تحاث الناس عليه و تداعوا إليه و تواصوا به فاتقوا الله ما استطعتم و لا تموتن إلا و أنتم مسلون.
أما بعد: قال الله تعالى :" (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك) ، وقال تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران:185). و قال عليه الصلاة و السلام :" أكثروا من ذكر هادم اللذات " يعني الموت. فإنًّ ذِكر الموت يورث الإنزعاج عن هذه الدار الفانية و التوجه في كل لحظة إلى الدار الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق و سعة و نعمة و محنة فإن كان في حال ضيق و محنة فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه، فإنه لا يدوم و الموت أصعب منه، و إن كان في حالة نعمة و سعة فذكر الموت يمنعه من الإغترار بها و السكون إليها. فالموت ليس بعدم محض و لا فناء صرف و إنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن و مفارقته و حيلولة بينهما و تبدل حال و انتقال من دار إلى دار و هو من أعظم المصائب و قد سماه الله تعالى مصيبة في قوله تعالى " ( فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ )(المائدة: الآية106) " . فالموت هو المصيبة العظمى و الرزية الكبرى قال العلماء و أعظم منه الغفلة عنه و الإعراض عن ذكرة و قلة التفكير فيه و ترك العمل له و إن فيه و حده لعبرة لمن اعتبر و فكرة لمن تفكر و في خبر يروى عنه صلى الله عليه و سلم: " لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا " ، و يروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له فخر ميتا فنزل الأعرابي عنه و جعل يطوف به و يتفكر فيه و يقول مالك لا تقوم مالك لا تنبعث هذه أعضاءك كاملة و جوارحك سالمة ما شأنك ما الذي كان يحملك ما الذي كان يبعثك من الذي عن الحركة منعك ، ثم تركه و انصرف متفكرا في شأنه متعجبا من أمره . و روى ابن ماجه عن ابن عمر انه قال كنت جالسا مع رسول الله صلى الله علية و سلم فجاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، قال يا رسول الله : " أي المؤمنين أفضل قال صلى الله عليه و سلم: { أحسنهم خلقا} " قال : "فأي المؤمنين أكيس ؟" قال صلى الله عليه و سلم: { أكثرهم للموت ذكرا و أحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس}.
فمن ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة و منعه من تمنيها في المستقبل و زهده فيما كان فيها يؤمل .
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات:
لا شئ مما تـرى تبقى بشاشته يبقى الإله و يودى المال و الولد
لم تغـن عن هرمز يوما خزائنه و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
و لا سليمان إذ تجري الرياح له و الإنس و الجن فيما بينها ترد
أيـن الملوك التي كانت لعزتها من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوما كما وردوا
و روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى و أبكى من حوله فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي و استأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت.
و لقد أحسن أبو العتاهية حيث قال:
يا عجا للناس لو فكروا و حاسبوا أنفسهم و أبصروا
و عبروا الدنيا إلى غيرها فإنما الدنيا لهم معبر
لا فخر إلا فخر أهل التقى غدا إذا ضمهم المحشر
ليعلمن الناس أن التقى و البر كان خير ما يدخر
عجبت للإنسان في فخره و هو غدا في قبره يقبر
ما بال من أوله نطفة و جيفة آخره يفخر
أصبح لا يملك تقديم ما يرجو و لا تأخير ما يحذر
و أصبح الأمر إلى غيره في كل ما يقضى و ما يقدر
أيها الناس ليس للقلوب مثل زيارة القبور و خاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بثلاثة أمور:
أحدها: الإقلاع عن ما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ و التذكر و التخويف و الترغيب و أخبار الصالحين .
ثانيها: ذكر الموت ، فيكثر من ذكر هادم اللذات و مفرق الجماعات و ميتم البنين و البنات .
ثالثها: مشاهدة المحتضرين فإن النظر إلى الميت و مشاهدة سكراته و نزعاته و تأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها و يطرد عن القلوب مسراتها و يمنع الأجفان من النوم و الأبدان من الراحة ، و يبعث على العمل و يزيد في الإجتهاد و التعب في طاعة الله.
يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه و شده ما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له الطعام يرحمك الله فقال: يا أهلاه عليكم بطعامكم و شرابكم فوالله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
فهذه ثلاثه أمور ينبغي لمن قسى قلبه و لزمه ذنبه أن يستعين بها على دواء داءه و يستصرخ بها عن فتن الشيطان و إغواءه فإن انتفع بها فذاك و إن عظم عليه ران القلب و استحكمت به دواعي الذنب فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول و الثاني و الثالث ، و لذلك قال عليه الصلاة و السلام :" زوروا القبور فإنها تذكر الموت"
فالأول سماع بالإذن و الثاني إخبار للقلب بما إليه المصير و قائم له مقام التخويف و التحذير. و في مشاهدة من أحتضر و زيارة قبر من مات من المسلمين معاينة كان أبلغ من الأول و الثاني . قال صلى الله عليه و سلم :" ليس الخبر كالمعاينة"، إلا أن الإعتبار بحال المحتضرين غير ممكن في كل الأوقات ، أما زيارة القبور فوجودها أسرع و الإنتفاع بها أليق و أجدر .
فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها و يحضر قلبه قي إتيانها و لا يكون حظه من الطواف بالأجداث فقط فإنها حالة تشاركه بها البهيمة و نعوذ بالله من ذلك . فليقصد بزيارته وجه الله و إصلاح فساد قلبه و يتجنب المشي على القبور و الجلوس عليها ، و يخلع نعليه و يسلم إذا دخل المقابر و يخاطبهم خطاب الحاضرين.
اعتبروا بمن صار تحت التراب و انقطع عن الأهل و الأحباب بعد أن قاد الجيوش و العساكر و نافس الأصحاب و العشائر و جمع الأموال و الذخائر فجاءه الموت في وقت لن يحتسبه و هول لم يرتقبه فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه و درج من أقرانه الذين بلغوا الآمال و جمعوا الأموال كيف انقطعت آمالهم و لم تغني عنهم أموالهم و محى التراب محاسن وجوههم و افترقت في القبور أجزاءهم و ترمل بعدهم نساءهم و شمل ذل اليتم أولادهم و اقتسم غيرهم أموالهم، و تذكر ترددهم في المآرب و حرصهم على نيل المطالب و انخداعهم لمواتات الأسباب و ركونهم إلى الصحة و الشباب، و ليعلم أن ميله إلى الهوى و اللعب كميلهم و غفلته عن ما بين يديه من الموت الفضيع و الهلاك السريع كغفلتهم، و إنه لا بد صائر إلى مصيرهم، و ليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه و كيف تهدمت رجلاه و كان يتلذذ بالنظر إلى من حوله و قد سالت عيناه و يصول ببلاغة نطقه و قد أكل الدود لسانه و يضحك لمواتات دهره و قد أبلى التراب أسنانه، و ليتحقق أن حاله كحالهم و مآله كمآلهم، و عند التذكر و الإعتبار تزول عنه جميع الإغيار الدنيوية و يقبل على الأعمال الأخروية فيزهد في الدنيا و يقبل على طاعة مولاه و يلين قلبه و تخشع جوارحه .
مثل نفسك يا مغرور و قد حلت بك السكرات و نزل بك الأنين و الغمرات فمن قائل يقول أن فلانا قد أوصى و ماله قد أحصى و من قائل يقول أن فلانا ثقل لسانه فلا يعرف جيرانه و لا يكلم اخوانه فكأني أنظر إليك و أنت تسمع الخطاب و لا تقدر على رد الجواب ثم تبكي ابنتك و هي كالأسيرة و تتضرع و تقول:
و أقبلت الصغرى تمرغ خدها على وجنتي حينا و حينا على صدري
و تخمش خديها و تبكي بحرقة تنادي أبي إني غلــبت على الصبـــر
حبيبي أبي من لليتامى تركتهم كأفراخ زغب في بعــد عــن الوكـــر
تخيل نفسك يا ابن آدم إذا أُخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك ، فغسلك الغاسل و ألبست الأكفان و أوحش منك الأهل و الجيران و بكت عليك الأصحاب و الأخوان و قال الغاسل أين زوجة فلان تحاللـه وأين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم أبدا و أنشدوا:
ألا أيها المغــرور مالك تلـعب تأمل آمالا و موتك أقرب
و تعلم أن الحـــرص بحر مبعد سفينة الدنيا فإياك تعطـب
و تعلم أن المــوت ينقض مسرعا عليك يقينا طعمه ليس يعذب
كأنك توصـي و اليتامى تراهـمُ و أمهم الثكلى تنوح و تندب
تغص بحـــزن ثم تلطـم وجهها يراها رجال بعـد ماهي تحجب
و أقبـل بالأكفان نحـوك قاصـد و يُحثى عليك التراب والعين تسكب
من الموت طالبه و القبر بيته و التراب فراشه و الدود أنيسه و هو بهذا ينتظر الفزع الأكبر " (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) المطففين:6
من أكثر من ذكر الموت تجددت التوبة عنده و حصلت القناعة في قلبه و نشطت العبادة لديه و من نسي الموت و لم يذكره ضيع التوبة و ترك القناعة و تكاسل عن العبادة .
تفكر يا مغرور في الموت و سكرته و صعوبة كاسه و مرارته فيا للموت من وعد ما أصدقه و من حاكم ما أعدله . كفى بالموت مقرحا للقلوب و مبكيا للعيون و مفرقا للجماعات و هادما للذات و قاطعا للأمنيات .
فهل تفكرت يابن آدم في يوم مصرعك و انتقالك من موضعك ، إذا نقلت من سعة إلى ضيق ، و خانك الصاحب و الرفيق و هجرك الأخ و الصديق و أخذت من فراشك و غطاءك إلى عرر و غطوك من بعد لين لحاف بتراب و مدر. فيا جامع المال و المجتهد في البنيان ليس لك و الله من مالك إلا الأكفان بل هي و الله للخراب و الذهاب و جسمك للتراب و المآب. فأين الذي جمعته من المال ، هل أنقذك من الأهوال ؟
كلا بل تركته لمن لا يحمدك و قدمت بأوزارك على من لا يعذرك . فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في الطين و الماء و التجبر و البغي.
أيها الأحباب احذروا الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات و حليت بالآمال و زينت بالغرور ، غرارة غرور ما فيها ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران: من الآية185) ، فانية فانٍ من عليها (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) (الرحمن:27) ، لا خير في كثير من زادها إلا تقوى الله حيها معرض للموت (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)(آل عمران: من الآية185) صحيحها معرض للسقم و وراء ذلك سكرات الموت و هول المطلع و الوقوف بين يدي الحكم العدل " (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(النجم: من الآية31) فبئست الدار لمن اطمأن عليها و هو يعلم أنه تاركها و قد وصفها الله بقوله سبحانه " (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (الشعراء:130) .
زوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة زوروا المرضى بالمستشفيات فإن زيارتكم لهم تذكركم بالموت ، زوروا كبار السن في منازلهم و تذكروا غداً أن شدتكم إلى ضعف مثلهم ، تمعنوا رحمكم الله في أصحاب القبور عند زيارتكم لهم فإنهم استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسعة ضيقا و بالأهل غربة و بالنور ظلمة ، ففارقوها كما جاءوها حفاة عراة فرادى مرهونين بأعمالهم إلى الحياة الدائمة إلى الخلود الدائم إلى دار اللذة و النعيم أو دار الحسرة و الجحيم . يقول تعالى: " (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الانبياء:104) و قال تعالى:" (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (الأنعام:94) .
احذروا ما حذركم الله و رسوله و انتفعوا بمواعظه ، فكفى بالقرآن واعظا و كفى بهدي المصطفى صلى الله عليه و سلم واعظا و كفى بالإيمان واعظا و كفى بالموت واعظا و كفى بالقبر واعظا و كفى بالنار واعظا فمن لم يتعض فلا حول و لا قوة إلا بالله .
استعدوا للموت و سكرته و للقبر و ظلمته و ظمته و للسؤال و شدته (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (ابراهيم:27) و يقول سبحانه:" (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس:64) ، جعلنا الله منهم .
اعتصموا بحبل الله عصمني الله و إياكم بطاعته و رزقنا و إياكم محبته و محبة نبيه صلى الله عليه و سلم و و أداء حقه .
يقول المولى عز و جل:" (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار:14) . نعم هؤلاء في نعيم و هؤلاء في جحيم في دورهم الثلاث أعن: دار الدنيا و دار البرزخ و الدار الآخرة ، فالنعيم نعيم القلب و العذاب عذاب القلب و أي عذاب أشد من الخوف و الهم و الحزن و ضيق الصدر و الإعراض عن الله و الدار الآخرة في دار العمل . أما دار البرزخ فعذاب يقرنه ألم مافاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده و ألم الحجاب عن المولى و ألم الحسرة و الندامة التي تقطع الأكباد . فالهم و الحزن و الغم و الحسرة و الندامة تعمل في نفوسهم مثل ما تعمل الديدان في أجسامهم ، فأين هذا من نعيم من يرقص قلبه فرحا و أنسا بربه و اشتياقا إليه و ارتياحا بحبه و طمأنينا بذكره . نعم النعيم نعيم القلب ، و هو جنة الدنيا من لا يدخلها لا يدخل جنة الآخرة . إنها طاعة الله و طاعة رسوله صلى الله علية و سلم ، إنها الإيمان و تقوى الله و توحيده . و بئس العذاب عذاب القلب ، عذاب في الدنيا و عذاب في القبر و عذاب أليم في الدار الآخرة.
يدخل الناس النار من ثلاثة أبواب :
فأخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه ، بل أخسر منه من اشتفل عن نفسه بالناس . ففي السنن من حديث أبي سعيد : " إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء تكفر اللسان تقول اتق الله فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا و إن إعوججت إعوججنا " و في قوله صلى الله عليه و سلم :" اتقوا الله و أجملوا في الطلب" دلالة كافية للجمع بين مصالح الدنيا و الآخرة و نعيمها و لذاتها إنما ينال بتقوى الله و راحة القلب و البدن و ترك الإهتمام او الحرص الشديد و التعب و العناد و الكد و الشقاء في طلب الدنيا ، فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة و نعيمها و من أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا و همومها و قد قيل:
قد نادت الدنيا على نفسها لو كان في ذا الخلق من يسمع
كم واثق بالعيش أهلكته و جامع فرقت ما يجمع
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه : أضحكني ثلاث و أبكاني ثلاث:
أضحكني : مؤمل دنيا الموت يطلبه و غافل ليس بمغفول عنه و ضاحك بملئ فيه لا يدري أأرضى الله أم أسخطه.
و أبكاني : فراق أحب الأحبة محمدا صلى الله عليه و سلم ، و هول المطلع عند غمرات الموت ، و الوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية فلا يدري أإلى الجنة أم إلى النار.
و يقول أنس ابن مالك رضي الله عنه : ألا أحدثكم بليلتين و يومين لم تسمع الخلائق مثلهن :
يوم يجيئك البشير من الله إما برضاه أو بسخطه عند الموت.
و يوم تعرض فيه على ربك آخذ كتابك إما بيمينك أو بشمالك .
و ليلة تستأنف فيها المبيت في القبور و لم تبت فيها قط.
و ليلة تتمخض صبيحتها يوم القيامة. 1_ باب شبهة أورثت شكا في دين الله . 2- و باب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعة الله و مرضاته. 3- و باب غضب أورث العدوان على خلقه .
من اعتصم بالله و رسوله فقد اعتصم بالعروة الوثقى و سعد في الآخرة و الأولى و من يعصي الله و رسوله فقد ضل ضلالا بعيدا و خسر خسرانا مبينا، أسأل الله أن يجعلني و إياكم ممن يطيعه و يطيع رسوله صلى الله عليه و سلم و يتبع رضوانه و يتجنب سخطه فإنما نحن به و له .
أوصيكم إخواني بتقوى الله و أحثكم على طاعته فإن تقوى الله أفضل ما تحاث الناس عليه و تداعوا إليه و تواصوا به فاتقوا الله ما استطعتم و لا تموتن إلا و أنتم مسلون.
أما بعد: قال الله تعالى :" (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك) ، وقال تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران:185). و قال عليه الصلاة و السلام :" أكثروا من ذكر هادم اللذات " يعني الموت. فإنًّ ذِكر الموت يورث الإنزعاج عن هذه الدار الفانية و التوجه في كل لحظة إلى الدار الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق و سعة و نعمة و محنة فإن كان في حال ضيق و محنة فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه، فإنه لا يدوم و الموت أصعب منه، و إن كان في حالة نعمة و سعة فذكر الموت يمنعه من الإغترار بها و السكون إليها. فالموت ليس بعدم محض و لا فناء صرف و إنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن و مفارقته و حيلولة بينهما و تبدل حال و انتقال من دار إلى دار و هو من أعظم المصائب و قد سماه الله تعالى مصيبة في قوله تعالى " ( فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ )(المائدة: الآية106) " . فالموت هو المصيبة العظمى و الرزية الكبرى قال العلماء و أعظم منه الغفلة عنه و الإعراض عن ذكرة و قلة التفكير فيه و ترك العمل له و إن فيه و حده لعبرة لمن اعتبر و فكرة لمن تفكر و في خبر يروى عنه صلى الله عليه و سلم: " لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا " ، و يروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له فخر ميتا فنزل الأعرابي عنه و جعل يطوف به و يتفكر فيه و يقول مالك لا تقوم مالك لا تنبعث هذه أعضاءك كاملة و جوارحك سالمة ما شأنك ما الذي كان يحملك ما الذي كان يبعثك من الذي عن الحركة منعك ، ثم تركه و انصرف متفكرا في شأنه متعجبا من أمره . و روى ابن ماجه عن ابن عمر انه قال كنت جالسا مع رسول الله صلى الله علية و سلم فجاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، قال يا رسول الله : " أي المؤمنين أفضل قال صلى الله عليه و سلم: { أحسنهم خلقا} " قال : "فأي المؤمنين أكيس ؟" قال صلى الله عليه و سلم: { أكثرهم للموت ذكرا و أحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس}.
فمن ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة و منعه من تمنيها في المستقبل و زهده فيما كان فيها يؤمل .
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات:
لا شئ مما تـرى تبقى بشاشته يبقى الإله و يودى المال و الولد
لم تغـن عن هرمز يوما خزائنه و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
و لا سليمان إذ تجري الرياح له و الإنس و الجن فيما بينها ترد
أيـن الملوك التي كانت لعزتها من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوما كما وردوا
و روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى و أبكى من حوله فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي و استأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت.
و لقد أحسن أبو العتاهية حيث قال:
يا عجا للناس لو فكروا و حاسبوا أنفسهم و أبصروا
و عبروا الدنيا إلى غيرها فإنما الدنيا لهم معبر
لا فخر إلا فخر أهل التقى غدا إذا ضمهم المحشر
ليعلمن الناس أن التقى و البر كان خير ما يدخر
عجبت للإنسان في فخره و هو غدا في قبره يقبر
ما بال من أوله نطفة و جيفة آخره يفخر
أصبح لا يملك تقديم ما يرجو و لا تأخير ما يحذر
و أصبح الأمر إلى غيره في كل ما يقضى و ما يقدر
أيها الناس ليس للقلوب مثل زيارة القبور و خاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بثلاثة أمور:
أحدها: الإقلاع عن ما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ و التذكر و التخويف و الترغيب و أخبار الصالحين .
ثانيها: ذكر الموت ، فيكثر من ذكر هادم اللذات و مفرق الجماعات و ميتم البنين و البنات .
ثالثها: مشاهدة المحتضرين فإن النظر إلى الميت و مشاهدة سكراته و نزعاته و تأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها و يطرد عن القلوب مسراتها و يمنع الأجفان من النوم و الأبدان من الراحة ، و يبعث على العمل و يزيد في الإجتهاد و التعب في طاعة الله.
يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه و شده ما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له الطعام يرحمك الله فقال: يا أهلاه عليكم بطعامكم و شرابكم فوالله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
فهذه ثلاثه أمور ينبغي لمن قسى قلبه و لزمه ذنبه أن يستعين بها على دواء داءه و يستصرخ بها عن فتن الشيطان و إغواءه فإن انتفع بها فذاك و إن عظم عليه ران القلب و استحكمت به دواعي الذنب فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول و الثاني و الثالث ، و لذلك قال عليه الصلاة و السلام :" زوروا القبور فإنها تذكر الموت"
فالأول سماع بالإذن و الثاني إخبار للقلب بما إليه المصير و قائم له مقام التخويف و التحذير. و في مشاهدة من أحتضر و زيارة قبر من مات من المسلمين معاينة كان أبلغ من الأول و الثاني . قال صلى الله عليه و سلم :" ليس الخبر كالمعاينة"، إلا أن الإعتبار بحال المحتضرين غير ممكن في كل الأوقات ، أما زيارة القبور فوجودها أسرع و الإنتفاع بها أليق و أجدر .
فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها و يحضر قلبه قي إتيانها و لا يكون حظه من الطواف بالأجداث فقط فإنها حالة تشاركه بها البهيمة و نعوذ بالله من ذلك . فليقصد بزيارته وجه الله و إصلاح فساد قلبه و يتجنب المشي على القبور و الجلوس عليها ، و يخلع نعليه و يسلم إذا دخل المقابر و يخاطبهم خطاب الحاضرين.
اعتبروا بمن صار تحت التراب و انقطع عن الأهل و الأحباب بعد أن قاد الجيوش و العساكر و نافس الأصحاب و العشائر و جمع الأموال و الذخائر فجاءه الموت في وقت لن يحتسبه و هول لم يرتقبه فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه و درج من أقرانه الذين بلغوا الآمال و جمعوا الأموال كيف انقطعت آمالهم و لم تغني عنهم أموالهم و محى التراب محاسن وجوههم و افترقت في القبور أجزاءهم و ترمل بعدهم نساءهم و شمل ذل اليتم أولادهم و اقتسم غيرهم أموالهم، و تذكر ترددهم في المآرب و حرصهم على نيل المطالب و انخداعهم لمواتات الأسباب و ركونهم إلى الصحة و الشباب، و ليعلم أن ميله إلى الهوى و اللعب كميلهم و غفلته عن ما بين يديه من الموت الفضيع و الهلاك السريع كغفلتهم، و إنه لا بد صائر إلى مصيرهم، و ليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه و كيف تهدمت رجلاه و كان يتلذذ بالنظر إلى من حوله و قد سالت عيناه و يصول ببلاغة نطقه و قد أكل الدود لسانه و يضحك لمواتات دهره و قد أبلى التراب أسنانه، و ليتحقق أن حاله كحالهم و مآله كمآلهم، و عند التذكر و الإعتبار تزول عنه جميع الإغيار الدنيوية و يقبل على الأعمال الأخروية فيزهد في الدنيا و يقبل على طاعة مولاه و يلين قلبه و تخشع جوارحه .
مثل نفسك يا مغرور و قد حلت بك السكرات و نزل بك الأنين و الغمرات فمن قائل يقول أن فلانا قد أوصى و ماله قد أحصى و من قائل يقول أن فلانا ثقل لسانه فلا يعرف جيرانه و لا يكلم اخوانه فكأني أنظر إليك و أنت تسمع الخطاب و لا تقدر على رد الجواب ثم تبكي ابنتك و هي كالأسيرة و تتضرع و تقول:
و أقبلت الصغرى تمرغ خدها على وجنتي حينا و حينا على صدري
و تخمش خديها و تبكي بحرقة تنادي أبي إني غلــبت على الصبـــر
حبيبي أبي من لليتامى تركتهم كأفراخ زغب في بعــد عــن الوكـــر
تخيل نفسك يا ابن آدم إذا أُخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك ، فغسلك الغاسل و ألبست الأكفان و أوحش منك الأهل و الجيران و بكت عليك الأصحاب و الأخوان و قال الغاسل أين زوجة فلان تحاللـه وأين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم أبدا و أنشدوا:
ألا أيها المغــرور مالك تلـعب تأمل آمالا و موتك أقرب
و تعلم أن الحـــرص بحر مبعد سفينة الدنيا فإياك تعطـب
و تعلم أن المــوت ينقض مسرعا عليك يقينا طعمه ليس يعذب
كأنك توصـي و اليتامى تراهـمُ و أمهم الثكلى تنوح و تندب
تغص بحـــزن ثم تلطـم وجهها يراها رجال بعـد ماهي تحجب
و أقبـل بالأكفان نحـوك قاصـد و يُحثى عليك التراب والعين تسكب
من الموت طالبه و القبر بيته و التراب فراشه و الدود أنيسه و هو بهذا ينتظر الفزع الأكبر " (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) المطففين:6
من أكثر من ذكر الموت تجددت التوبة عنده و حصلت القناعة في قلبه و نشطت العبادة لديه و من نسي الموت و لم يذكره ضيع التوبة و ترك القناعة و تكاسل عن العبادة .
تفكر يا مغرور في الموت و سكرته و صعوبة كاسه و مرارته فيا للموت من وعد ما أصدقه و من حاكم ما أعدله . كفى بالموت مقرحا للقلوب و مبكيا للعيون و مفرقا للجماعات و هادما للذات و قاطعا للأمنيات .
فهل تفكرت يابن آدم في يوم مصرعك و انتقالك من موضعك ، إذا نقلت من سعة إلى ضيق ، و خانك الصاحب و الرفيق و هجرك الأخ و الصديق و أخذت من فراشك و غطاءك إلى عرر و غطوك من بعد لين لحاف بتراب و مدر. فيا جامع المال و المجتهد في البنيان ليس لك و الله من مالك إلا الأكفان بل هي و الله للخراب و الذهاب و جسمك للتراب و المآب. فأين الذي جمعته من المال ، هل أنقذك من الأهوال ؟
كلا بل تركته لمن لا يحمدك و قدمت بأوزارك على من لا يعذرك . فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في الطين و الماء و التجبر و البغي.
أيها الأحباب احذروا الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات و حليت بالآمال و زينت بالغرور ، غرارة غرور ما فيها ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران: من الآية185) ، فانية فانٍ من عليها (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) (الرحمن:27) ، لا خير في كثير من زادها إلا تقوى الله حيها معرض للموت (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)(آل عمران: من الآية185) صحيحها معرض للسقم و وراء ذلك سكرات الموت و هول المطلع و الوقوف بين يدي الحكم العدل " (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(النجم: من الآية31) فبئست الدار لمن اطمأن عليها و هو يعلم أنه تاركها و قد وصفها الله بقوله سبحانه " (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (الشعراء:130) .
زوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة زوروا المرضى بالمستشفيات فإن زيارتكم لهم تذكركم بالموت ، زوروا كبار السن في منازلهم و تذكروا غداً أن شدتكم إلى ضعف مثلهم ، تمعنوا رحمكم الله في أصحاب القبور عند زيارتكم لهم فإنهم استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسعة ضيقا و بالأهل غربة و بالنور ظلمة ، ففارقوها كما جاءوها حفاة عراة فرادى مرهونين بأعمالهم إلى الحياة الدائمة إلى الخلود الدائم إلى دار اللذة و النعيم أو دار الحسرة و الجحيم . يقول تعالى: " (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الانبياء:104) و قال تعالى:" (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (الأنعام:94) .
احذروا ما حذركم الله و رسوله و انتفعوا بمواعظه ، فكفى بالقرآن واعظا و كفى بهدي المصطفى صلى الله عليه و سلم واعظا و كفى بالإيمان واعظا و كفى بالموت واعظا و كفى بالقبر واعظا و كفى بالنار واعظا فمن لم يتعض فلا حول و لا قوة إلا بالله .
استعدوا للموت و سكرته و للقبر و ظلمته و ظمته و للسؤال و شدته (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (ابراهيم:27) و يقول سبحانه:" (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس:64) ، جعلنا الله منهم .
اعتصموا بحبل الله عصمني الله و إياكم بطاعته و رزقنا و إياكم محبته و محبة نبيه صلى الله عليه و سلم و و أداء حقه .
يقول المولى عز و جل:" (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار:14) . نعم هؤلاء في نعيم و هؤلاء في جحيم في دورهم الثلاث أعن: دار الدنيا و دار البرزخ و الدار الآخرة ، فالنعيم نعيم القلب و العذاب عذاب القلب و أي عذاب أشد من الخوف و الهم و الحزن و ضيق الصدر و الإعراض عن الله و الدار الآخرة في دار العمل . أما دار البرزخ فعذاب يقرنه ألم مافاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده و ألم الحجاب عن المولى و ألم الحسرة و الندامة التي تقطع الأكباد . فالهم و الحزن و الغم و الحسرة و الندامة تعمل في نفوسهم مثل ما تعمل الديدان في أجسامهم ، فأين هذا من نعيم من يرقص قلبه فرحا و أنسا بربه و اشتياقا إليه و ارتياحا بحبه و طمأنينا بذكره . نعم النعيم نعيم القلب ، و هو جنة الدنيا من لا يدخلها لا يدخل جنة الآخرة . إنها طاعة الله و طاعة رسوله صلى الله علية و سلم ، إنها الإيمان و تقوى الله و توحيده . و بئس العذاب عذاب القلب ، عذاب في الدنيا و عذاب في القبر و عذاب أليم في الدار الآخرة.
يدخل الناس النار من ثلاثة أبواب :
فأخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه ، بل أخسر منه من اشتفل عن نفسه بالناس . ففي السنن من حديث أبي سعيد : " إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء تكفر اللسان تقول اتق الله فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا و إن إعوججت إعوججنا " و في قوله صلى الله عليه و سلم :" اتقوا الله و أجملوا في الطلب" دلالة كافية للجمع بين مصالح الدنيا و الآخرة و نعيمها و لذاتها إنما ينال بتقوى الله و راحة القلب و البدن و ترك الإهتمام او الحرص الشديد و التعب و العناد و الكد و الشقاء في طلب الدنيا ، فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة و نعيمها و من أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا و همومها و قد قيل:
قد نادت الدنيا على نفسها لو كان في ذا الخلق من يسمع
كم واثق بالعيش أهلكته و جامع فرقت ما يجمع
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه : أضحكني ثلاث و أبكاني ثلاث:
أضحكني : مؤمل دنيا الموت يطلبه و غافل ليس بمغفول عنه و ضاحك بملئ فيه لا يدري أأرضى الله أم أسخطه.
و أبكاني : فراق أحب الأحبة محمدا صلى الله عليه و سلم ، و هول المطلع عند غمرات الموت ، و الوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية فلا يدري أإلى الجنة أم إلى النار.
و يقول أنس ابن مالك رضي الله عنه : ألا أحدثكم بليلتين و يومين لم تسمع الخلائق مثلهن :
يوم يجيئك البشير من الله إما برضاه أو بسخطه عند الموت.
و يوم تعرض فيه على ربك آخذ كتابك إما بيمينك أو بشمالك .
و ليلة تستأنف فيها المبيت في القبور و لم تبت فيها قط.
و ليلة تتمخض صبيحتها يوم القيامة. 1_ باب شبهة أورثت شكا في دين الله . 2- و باب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعة الله و مرضاته. 3- و باب غضب أورث العدوان على خلقه .