بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ



إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله .. اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً .. أمْا بَعد ...

العودة إلى القرآن .. لماذا ؟ .. وكيف ؟
قصة الوجــود ويوم الحســاب
الكثير من الناس يدخل إلى الدنيا ثم يخرج منها وهو لا يدري لماذا وُجد فيها، بل إنه لا يُجهد نفسه في البحث عن إجابة عن هذا السؤال، فهو يسير مع غيره.. همُّه جمع المال، وتأمين احتياجاته من مطعم ومشرب وملبس ومسكن.

يتزوج كغيره، ويُنجب الأولاد ليزداد سعيه من أجل تأمين مستقبلهم المادي في الدنيا..

يكبر سنه شيئا فشيئا، وهو يظن أنه قد أدى دوره في الحياة، ثم يموت ليُفاجأ بالحقيقة، يقول تعالى: ﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: 22].

فما هي تلك الحقيقة التي يُفاجأ بها الغافلون عند الموت: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]. إنها حقيقة الدنيا، وحقيقة المهمة التي خُلقنا من أجلها.


الدنيا دار امتحان:

إننا – معشر البشر – لم نهبط إلى الدنيا ونمض فيها ما نمضي من السنوات لنأكل أو لنشرب أو لنتزوج وتكون لنا ذرية.. بل لأمر عظيم أبت السماوات والأرض أن تحمله: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].

إنه اختبار في عبادة الله عز وجل بالغيب في ظل تمتعنا بحرية الاختيار، ومع وجود النفس الراغبة في نيل الشهوات، وحب العاجلة.

وشاء الله عز وجل أن تكون الأرض هي مكان هذا الاختبار.. ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7].

وحدد لنا سبحانه وتعالى شكل العبودية التي يريدها منا من خلال منهج وأدوات، وجعل المنهج ميسرا وسهلا: تكاليف قليلة، أوامر ونواه ضمَّنها كتابه، وشرحها رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الأدوات فهي ما يُعطيع - سبحانه – لعبده أو يمنعه عنه.. فيُعطي بعضهم أشياء مثل المال، الصحة، المنصب،... ويمنعها عن آخرين..

والهدف من العطاء: الشكر. ومن المنع: الصبر.. فمن أعطي مالا ولم يشكر الله عليه فقد رسب في هذا الاختبار، ومن حُرم الأولاد فصبر ورضي فقد نجح وحقق المطلوب منه.

فالعبد الصالح يستقبل العطاء، أي عطاء، مستشعرا قول الله عز وجل: ﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾[النمل: 40].

والآخر يستقبله وهو يردد ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ [الزمر: 49]، وهو لا يدري أنه اختبار ﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 49].

ويُذكرنا الله عز وجل أنه ليس لأحد أن يملك شيئا من الدنيا، فكل عطاء مُسترد، وسنخرج منها كما دخلنا فيها، فالله عز وجل سيرث الأرض ومن عليها من ذهب وفضة و... فما علينا إلا أن نردد ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156].


لماذا الاختلاف بين الناس ؟
فإذا ما تبين ذلك كانت الإجابة سهلة عن السؤال الذي يشغل بال الكثير، وهو: لماذا الاختلاف بين البشر في العطاء والمنع، وأيهما أفضل: الغنى أم الفقر؟ من عنده أولاد أم من حُرم منهم ؟

الأفضل من ينجح في مادته، فالغني الشاكر خير من الفقير غير الراضي وغير الصابر، ومن حُرم الأولاد فصبر خير ممن رُزق الأولاد ولم يشكر الله عليهم..

فالعبرة في الكيفية التي نتعامل بها مع المنع والعطاء، ويتضح هذا جليا في قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ﴾ [الفجر: 15 - 17].

أما الشيطان فهو يدخل علينا من نفس مداخله على أبوينا: الملك والخلد.. فيُزين لنا العطاء على أنه مُلك حقيقي، ويُبهرج الدنيا أمام أعيننا، فنحبها ونتشبث بها، ونتصارع عليها، ثم نُفاجأ بعد ذلك أننا لم نجن من ورائها إلا السراب ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾[النساء: 120].


إنها القصة المكررة منذ القدم :
فإن كان هذا هو المنهج وهذه هي الإجابة المطلوبة، فما هو زمن الامتحان، ومن الذي يتولى الرقابة عليه ؟

أخبرنا الله عز وجل بأن وقت الامتحان يبدأ من وقت البلوغ والتكليف وينتهي عند نزع الروح من الجسد، وأخبرنا كذلك بأن باب التوبة مفتوح طوال هذه الفترة، فلنا أن نمحو كل الإجابات الخاطئة، ونستبدلها بحسنات ما لم نغرغر..

أما تسجيل الإجابات والرقابة على الأرض فتتولاها أكثر من جهة، فالملائكة تُسجل كل أعمالنا ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].

وأجسامنا شهيدة علينا ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 24].

والكون كله يراقبنا ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 29].

ومع هذا كله، فالله عز وجل أحاط بكل ذلك، فهو الشهيد – الرقيب – السميع – البصير – القريب - المحيط، قال تعالى: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7].

فشدة الرقابة وعدم معرفة نهاية وقت الاختبار يستلزم منا شدة اليقظة، ودوام محاسبة النفس، والحذر من الشيطان، وكثرة التوبة والإنابة إلى الله.

القرآن وقصة الوجود :
ولقد أفاض القرآن في تذكيرنا بقصة الوجود، وأخبرنا بما سيحدث لنا، وصوّر يوم القيامة بمشاهده العظيمة، ووصف لنا الجنة والنار وصفا دقيقا.. كل ذلك ليزداد تشميرنا وتنافسنا للفوز بالجنة والنجاة من النار.

إن دوام تذكر يوم الحساب من شأنه أن يُغير حياة الناس، ويجعلهم دائما في خوف ووجل، ويُهوِّن في أعينهم الدنيا، فتخرج من قلوبهم ويتعاملون معها كما يُريد الله عز وجل فيجعلون منها مزرعة للآخرة.

ستصبح تصوراتنا حول مفردات الدنيا من رزق وزوجة وأولاد ومستقبل.. معتدلة، فلن نتصارع من أجل جمع المال، وسنعمل على تأمين مستقبل الأولاد الحقيقي هناك في الجنة، وسنجعل شعارنا قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26].

لذلك أعطى القرآن لقصة الوجود، ويوم الحساب، والوعد والوعيد مساحة كبيرة لتكون لنا عونا على دوام تذكرنا، فلا نُفاجأ بالموت دون أن نستعد له، وذكر لنا كذلك نماذج للإجابات الصحيحة من المؤمنين على مرِّ العصور لتكون لنا مثالا نحتذي به، ونحن نسير في الدنيا، ونتقلب في مواد امتحانها.

قال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾ [الفرقان: 63 -