بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ



إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله .. اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً .. أمْا بَعد ...


سلسلة

انه القرآن سر نهضتنا

كيف يمكن للقرآن أن ينهض بالأمة؟


د/ مجدي الهلالي




عندما نقول – بعون من الله – إن القرآن هو سر نهضة هذه الأمة، وأنه مخرجها الآمن من النفق المظلم الذي تسير فيه، وأنه قادر – بإذن الله- على بث الروح في جسدها، ومعالجة نقاط ضعفها، وإعادة ما سُلب من أمجادها، فإن هذا القول لا يأتي من فراغ، بل تُؤيده شواهد وأسباب كثيرة نذكرها لك -أخي القارئ- لعلها تشحذ الهمم وتقوي العزائم للانطلاق الصحيح نحو هذا الكنز المهجور...



أولاً: القرآن هو اختيار الله لعباده أجمعين

الله عز وجل هو الرب الذي يُربِّي عباده ويتعاهدهم، ويمدهم بما يحتاجون إليه من سائر الإمدادات كالطعام والشراب والهواء والحفظ والرعاية ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ` يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل:10، 11].

هذا الرب العظيم يحب عباده جميعًا ويريد لهم الخير والنجاح في الاختبار الذي نزلوا إلى الأرض لتأديته...

يريد لهم جميعًا دخول الجنة ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة:221].

وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد اختص الإنسان لنفسه، وكرمه على سائر خلقه

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء:70].



ولأنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان ويعلم عنه أكثر مما يعلم هذا الإنسان عن نفسه

فلقد علم – سبحانه- بحاجة هذا الإنسان إلى دواء يشفيه، ويبصره بطريق الهدى،

ويُولد لديه الطاقة والعزيمة للسير في هذا الطريق، فهيأ له دواء فريدًا يصلح له حتى قيام الساعة...

﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك:14]



والأمر اللافت للانتباه أن هناك العديد من الآيات القرآنية التي تؤكد لنا هذا المعنى وتخبرنا بأن القرآن

فكان القرآن ﴿تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [فصلت:2].

﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِين﴾ [الحاقة43 / الواقعة80].

فرب العالمين، المربي للبشر جميعًا هو الذي أنزل لهم القرآن.

فالقرآن هو اختيار الله لعباده أجمعين

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾[يونس:57].



وفي هذا المعنى يقول سيد قطب رحمه الله:

إن هذه البشرية – وهي من صنع الله –لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده – سبحانه – وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء:

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾[الإسراء: 82]... ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الاسراء9].

ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد الآلة إلى صانعها، ولا أن تذهب بالمريض إلى بارئه، ولا تسلك في أمر نفسها، وفي أمر إنسانيتها وفي أمر سعادتها أو شقوتها، ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة... وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز... ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه فترده إلى المصنع الذي منه خرج، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ` أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير﴾ [الملك: 13، 14] في ظلال القرآن.. المقدمة.






ثانيًا: القرآن يجمع بين الرسالة والمعجزة:

القرآن دون غيره من الكتب السماوية السابقة يجمع بين أمرين عظيمين: الرسالة والمعجزة..

فالرسالة القرآنية شأنها شأن الكتب السابقة تدل الناس على الله،

وتهديهم إلى الطريق الموصل إليه، وتبين لهم العقبات والمنعطفات التي قد تقابلهم وكيف يتجاوزونها

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة:185].

ولقد كانت هذه وظيفة الإنجيل أيضًا ﴿وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة:46].

وكذلك التوراة وسائر الكتب ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة:44].



ولكن هل معرفة الطريق وحدها تكفي لسلوك المرء له، أليس هناك عقبات داخل الإنسان تحول بينه وبين السير في طريق الهدى؟

... أليس الهوى وسطوته على القلب له دور كبير في تثبيط الإنسان وإقعاده عن السير في طريق الله؟

من هنا تظهر عظمة القرآن وأفضليته على سائر الكتب السابقة، فلقد أودع الله فيه معجزة خارقة،

أعظم بكثير من معجزات عيسى وموسى وصالح وسائر الرسل والأنبياء السابقين عليهم أفضل الصلوات والتسليم.







إن المعجزة القرآنية الخارقة ليست فقط في بلاغته وخلوده وحفظه من التحريف، وليست فقط في صلاحية القرآن لكل زمان ومكان،

بل إنها فوق ذلك بكثير، فسرُّ المعجزة القرآنية يكمن في قدرته الفذة – بإذن الله – على التغيير،

وبث الروح والحياة الحقيقية، وتوليد الطاقة فيمن يحسن الإقبال عليه

﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى:52].

... المعجزة القرآنية تقوم بتوصيل تيار الحياة إلى القلب فيفيق من غفلته، ويحيا بعد موته، وينطلق إلى ربه

﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ [الأنعام:122].







ولئن كانت الرسالة القرآنية توضح للناس الطريق الموصل إلى الله، فإن المعجزة القرآنية تقوم بأخذ أيديهم إلى هذا الطريق،

وتسير بهم، وتقودهم، وتتولى إخراجهم من الظلام الذي يعيشون فيه إلى نور الله المبين في الدنيا، والجنة في الآخرة.



... وهناك العديد من الآيات التي تبين هاتين الوظيفتين، منها ما جاء في سورة المائدة

فهنا توضح الآيات وظيفة القرآن كرسالة هادية، أما وظيفته كمعجزة فتوضحها بقية الآية

﴿وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 16].



فالإخراج من الظلام... من المكان الذي ألفه الإنسان يحتاج إلى قوة دافعة، وطاقة تتولد داخله

تُيسِّر له اتخاذ قرار النهوض والخروج مما تعود عليه... وهذه هي وظيفة المعجزة القرآنية، والتي اختصه الله بها...



قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ, وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ, فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه (4598).



يعلق الحافظ ابن كثير على هذا الحديث فيقول:

معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد..

فإنه ليس ثمَّ حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس من هذا القرآن,

الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله. تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2 /471.



﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ` يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾ [المائدة: 15، 16].