الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد



إن المتأمل فى القرآن الكريم والمتدبر لآياته يجد أن المولى سبحانه وتعالى قد أمر عباده بالاستقامة على منهجه فى آيات كثيرة من كتابه العزيز منها:


1- أن الاستقامة أمر الله تعالى بها فى كتابه العزيز: أمر الله عز وجل عباده بالاستقامة ، وبيّن لهم جزاء وثواب الاستقامة على طريقه ومنهجه فى الدنيا والآخرة فقال جل وعلاإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32))(سورة فصلت : الآيات : 30 ،32)

قال الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية:يقول تعالىإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) أىأخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم( تفسير ابن كثير جـ4 صـ 120).

وقال الإمام الطبري رحمه الله:يقول تعالى ذكرهإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ)وحده لا شريك له، ويرثوا من الآلهة والأنداد،(ثُمَّ اسْتَقَامُوا) على توحيد الله، ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به، وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى(تفسير الطبرى : جـ21 صـ463)0



2- أن الله عز وجل بيّن لنا أن ثواب الاستقامة الجنة :قال سبحانه وتعالىإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14))(سورةفصلت:الآيتان:13،14).

قال الإمام الطبري عند تفسيره لهذه الآية : يقول تعالى ذكرهإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) الذي لا إله غيره(ثُمَّ اسْتَقَامُوا)على تصديقهم بذلك فلم يخلطوه بشرك، ولم يخالفوا الله في أمره ونهيه ،(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)من فزع يوم القيامة وأهواله (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما خلفوا وراءهم بعد مماتهم ، وقولهإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) الذي لا إله غيره(ثُمَّ اسْتَقَامُوا)على تصديقهم بذلك فلم يخلطوه بشرك، ولم يخالفوا الله في أمره ونهيه ،(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)من فزع يوم القيامة وأهواله (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما خلفوا وراءهم بعد مماتهم ، وقوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين قالوا هذا القول، واستقاموا أهل الجنة وسكانها( خَالِدِينَ فِيهَا)يقول: ماكثين فيها أبدا(جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)يقول: ثوابا منا لهم آتيناهم ذلك على أعمالهم الصالحة التي كانوا في الدنيا يعملونها.(تفسير الطبرى جـ22 صـ111).

3-ومن عظم أمر الاستقامة أن الله عز وجل أمر بها المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112))(سورة هود : الآية: 112).

قال الإمام ابن كثير رحمه الله:يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة ، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد ،ونهى عن الطغيان وهو البغي فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ولا يخفى عليه شيء.(تفسير ابن كثير : جـ2 صـ561).

وانظر هنا إلى تفسير علماء السلف الصالح رضوان الله عليهم للاستقامة ومن أقوالهم فى ذلك :

قال ابن عيينة رحمه الله وجماعة : معناه استقم على القرآن.

وقال الضحاك رحمه الله: استقم بالجهاد.

وقال مقاتل رحمه الله : امض على التوحيد.

وقال جماعة : استقم على أمر ربك بالدعاء إليه.

وقال ابن عطية رحمه الله : أمر بالاستقامة وهو عليها ، وهو أمر بالدوام والثبوت. والخطاب للرسول وأصحابه الذين تابوا من الكفر ولسائر الأمة ، فالمعنى : وأمرت مخاطبة تعظيم.(تفسير البحر المحيط لأبى حيان : جـ5 صـ223).

وقال بعض العلماء: الاستقامة هى سلوك الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة ، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها كذلك.(جامع العلوم والحكم صـ193).

وإن المتأمل فى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم يجد أنه صلوات الله عليه وسلامه أمرنا بالاستقامة على منهج الله عز وجل كما جاء فى القرآن الكريم وسنته الشريفة صلى الله عليه وسلم فى أحاديث كثيرة منها:

1- أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة:فعن ثوبان رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن).(أخرجه ابن ماجة فى سننه وصححه الألبانى فى صحيح سن ابن ماجة حديث رقم 278).

قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: قوله: (استقيموا): أي لا تزيغوا وتميلوا عما سن لكم وفرض عليكم فقد تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها وليتكم تطيقون ذلك.(التمهيد: جـ24 صـ318).

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله:والمطلوب من العبد الاستقامة وهي السداد فإن لم يقدر عليها فالمقاربة فإن نزل عنها : فالتفريط والإضاعة ، ثم قال رحمه الله: فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات فالاستقامة فيها : وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله ،وقال بعض العارفين : كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطالبك بالاستقامة ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.(مدارج السالكين:2/105).

2- الاستقامة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:إن المتأمل فى وصايا النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه قد أوصى أصحابه رضى الله عنهم وأمته من بعدهم بما ينفعهم فى الدنيا والآخرة ، ومن هذه الوصايا الوصية بالاستقامة فى أحاديث كثيرة منها:

ما أخرجه الحاكم فى المستدرك عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: إن معاذ بن جبل أراد سفراً فقال: يا رسول الله أوصني قال: (اعبد الله لا تشرك به شيئاً) قال: يا رسول الله زدني، قال: (إذا أسأت فأحسن) قال: يا رسول الله زد قال: (استقم ولتحسن خلقك).(حسنه الألبانى فى صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 3158).

ففى هذا الحديث أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة بصيغة الأمر مما يدل على وجوب الاستقامة على منهج الله عز وجل وسنته صلى الله عليه وسلم.

وعن سفيان بن عبد الله الثقفي أنه قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال: (قل آمنت بالله ثم استقم)(أخرجه الترمذى فى سننه وصححه الألبانى فى صحيح سنن الترمذى حديث رقم 2410).

قوله: ( آمنت بالله): يشمل الإيمان بوجود الله عز وجل، وبربوبيته وبأسمائه وصفاته، وبأحكامه، وبأخباره وكل ما يأتي من قبله عز وجل تؤمن به، فإذا آمنت بذلك فاستقم على دين الله، ولا تحد عنه، لا يميناً ولا شمالاً لا تقصر ولا تزد ، فاستقم على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وذلك بالإخلاص لله عز وجل والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم ، استقم على الصلاة، وعلى الزكاة، والصيام، والحج، وعلى جميع الشرائع.

وقوله: (آمنت بالله ثم...): دليل على أن الاستقامة لا تكون إلا بعد الإيمان، وأن من شرط الأعمال الصالحة – أي: من شرط صحتها وقبولها – أن تكون مبنية على الإيمان. فلو أن الإنسان عمل بظاهره على ما ينبغي، ولكن باطنه خراب، وفي شك واضطراب، أو في إنكار وتكذيب، فإن ذلك لا ينفعه، ولهذا اتفق العلماء – رحمهم الله – على أن من شروط صحة العبادة وقبولها: أن يكون الإنسان مؤمناً بالله، أي: معترفاً به، وبجميع ما جاء من قبله – تبارك وتعالى).

وقال القاضى عياض رحمه الله: هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وهو مطابق لقوله تعالىإن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أى وحدوا الله وآمنوا به ثم استقاموا فلم يحيدوا عن التوحيد والتزموا طاعته سبحانه إلى أن توفوا على ذلك.

وقيل: الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر لأنها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الله على حقيقة الصدق ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : استقيموا ولن تحصوا ،وقال الواسطي: الخصلة التي بها كملت المحاسن وبفقدها قبحت المحاسن الاستقامة.(الديباج على مسلم : جـ1صـ55).

3- الحث على استقامة الجوارح :عن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصبح ابن آدم فإن أعضاءه تكفر اللسان تقول: "اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا).(أخرجه الترمذى فى سننه وحسنه الألبانى فى صحيح سنن الترمذى حديث رقم 2407).

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).(رواه مسلم).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون)(سورة الأنعام:153)(أخرجه الدارمى فى سننه وحسنه الألبانى فى مشكاة المصابيح حديث رقم 166).

ومن آثار السلف الصالح فى الاستقامة:

سُئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال: ألا تشرك بالله شيئاً- يريد الاستقامة على التوحيد.(مدارج السالكين 2/108).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب. (مدارج السالكين 2/109).

وقال على بن أبى طالب وابن عباس رضى الله عنهما: استقاموا أدوا الفرائض.

وقال مجاهد رحمه الله : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله.

وقال حذيفة بن اليمان رضى الله عنه: يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقاً بعيداً فإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً.(فتح الباري: 13/282).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.

وقال أيضاً: استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة.(مدارج السالكين: 2/109، 110)